الحملة الصليبية الأولى
قُبيل انطلاق الحملات الصليبية، كان للكنيسة الكاثوليكية سيطرة تامة على مقاليد الأمور في أوروبا، وكان البابا في روما ورجال الكنيسة يعملون على نشر الشائعات، ويوهمون الناس بأن نهاية العالم أوشكت، وأن هذا مرتبط بمرور ألف سنة على ميلاد المسيح (عليه السلام)، ويُفسرون الظواهر الكونية والطبيعية بأنها أدلة على اقتراب يوم القيامة. وكانت تلك مقدمات لانطلاق ما اصطلح عليه في التاريخ باسم “الحملات الصليبية”. وتعدّ الحملة الصليبية الأولى (488ه/1095م) أولى الهجمات الاستعمارية الغربية على العالم الإسلامي، بهدف السيطرة على عُمّقه ومركزه (بلاد الشام ومصر)، والتي كان البابا أوربان الثاني المسؤول الأول عنها، وشكلت مرحلة خطيرة وحساسة في علاقة المسلمين مع الغرب حتى وقتنا الحاضر.
أولاً: ممهدات الغزو الاستعماري الصّليبي (خطبة البابا في كليرمون)
كانت بداية الغزو الاستعماري “الصّليبي” في إعلان البابا أوربان الثاني عقد مؤتمره الكنسي في مدينة كليرمون (جنوب فرنسا)، وذلك بتاريخ (12 – 22 ذو القعدة 488ه/ 18 – 28 نوفمبر1095م)، وكان البرد شديدًا في ذلك اليوم، ومع ذلك فقد لبَّت جموع هائلة دعوة البابا، واجتمعوا في أحد الحقول الفسيحة في كليرمون، بل وامتلأت القرى والمدن المجاورة بالقادمين من كل مكان لسماع الخطبة التي كان البابا يرتِّب لها منذ سبعة أشهر كاملة. واستمرّ المؤتمر عشرة أيّام، وحضره رجال الكنيسة والأمراء والإقطاعيين والفلاحين من مختلف أنحاء أوروبّا، واستطاع البابا أن يثير حماس السامعين في خطابه، وبنى خطابَه على أكاذيب؛ منها اضطهاد المسلمين للنّصارى في بلاد المسلمين، كما قدّم صكوك الغفران لمن يشارك في هذه الحروب، وقدّم كذلك رعاية الكنيسة لأسرهم مدّةَ غيابهم، ومغريات أخرى سنأتي على ذكرها (تاريخ الحملات الصليبية، ستيفن رانسيمان، ط2، 1994م، ج1، ص 189 – 190).
وكان من المؤثرات التي استخدمها البابا في خطبته أنه لا يتكلم في هذه الخطبة نيابة عن نفسه، وإنما يتكلم نيابة عن المسيح (عليه السلام)، فقال: “ومن ثَمَّ فإنني لست أنا، ولكن الرب هو الذي يحثكم باعتباركم وزراء المسيح أن تحضوا الناس من شتى الطبقات” (أسامة محمد، البابا أوربان الثاني.. مُسعر نيران الحرب الصليبية، موقع التاريخ والواقع، 29/08/2017). واستخدم في خطبته نصًّا من إنجيل لوقا: “ومن لا يحمل صليبه، ويأتي ورائي فلا يقدر أن يكون لي تلميذًا” (إنجيل لوقا، الاصحاح الرابع عشر: 27).
ومن الكلام الذي لامس مشاعر الجماهير الغفيرة في خطبته هو دعوته إلى الغفران، وهو مقصد شعبي في ذلك الوقت، خاصةً مع شعور الناس أن الدنيا ستُفنى قريبًا، إذ يقول: “إني أخاطب الحاضرين، وأعلن لأولئك الغائبين، فضلاً عن أن المسيح يأمر بهذا، أنه سوف يتم غفران ذنوب كل أولئك الذاهبين إلى هناك، إذا ما انتهت حياتهم بأغلالها الدنيوية، سواء في مسيرتهم على الأرض، أو أثناء عبورهم البحر، أو في خضم قتالهم ضد الوثنيين (يقصد المسلمين)، وهذا الغفران أمنحه لكل من يذهب بمقتضى السلطة التي أعطاني الرب إياها” (مجمع كليرمون .. خطبة أوربان الثاني ونتائجها، راغب السرجاني، 02/05/2010م)، ويقصد البابا أن المشارك في هذه الحملة سيموت وهو مغفور الذنب، فضلاً عن إعفاء أملاك الملاَّك من الضرائب أثناء القتال، وإعفاء المجرمين من العقاب على جرائمهم إنْ هم شاركوا في الحملة.
واستفاض البابا في تصوير حالة المعاناة والاضطهاد التي يُعاني منها الحجاج النصارى الوافدين إلى فلسطين على أيدي المسلمين، وهذا كله من الزور والبهتان لتأجيج نار الحملة. وهو فرصة لتحقيق مآربه الدينية، ويتيح فرصة للفرسان لاستعراض قوتهم وقدراتهم القتالية. ويعطينا المؤرخ الإنجليزي “ستيفن رانسيمان” في موسوعته عن الحروب الصليبية أبعاد أكثر قوة من الأبعاد الدينية للحروب، ويستحضر بذلك عبارات البابا في مؤتمر كليرمونت عندما دعا للاستيلاء على ثروات المشرق الغنية، بالقول: “لا تدعو شيئاً يقعد بكم، ذلك أن الأرض التي تسكنونها الآن ضيقةً على سكانها الكثيرين، وتكاد تعجز عن كفايتهم من الطعام، ومن أجل هذا يذبح بعضكم بعضاً.. إن أورشليم أرضاً لا نظير لها في ثمارها، بل هي فردوس المباهج” (تاريخ الحملات الصليبية، رانسيمان، المصدر السابق، ص 190 – 191)، يقصد فلسطين، وبذلك حرَّك عواطف الفقراء والأمراء معًا؛ فالفقير يبحث عن الحياة الأفضل، والإعفاء من الديون، والأمير والنبيل يبحث عن التملك والمكاسب.
وقد بلغت أعداد الحملات الصليبية إلى ثماني حملات من بداية أول حملة عام 489ه/ 1096م، وحتى عام 1291م، وهو العام الذي سقطت فيه آخر القلاع الصليبية في الشام “عكا” على أيدي سلطنة الممالك الإسلامية (الحملات الصليبية.. دوافع دينية أم غايات أخرى، طالب الدغيم، الجزيرة نت، 12/ 05/ 2021م).
ثانياً: أسباب الحملة الصّليبية الأولى
لا يمكننا فهم أهداف الحروب الصليبية ودوافعها دون اِطِّلاع حقيقي على الحياة التي كانت تعيشها أوروبا في ذلك التاريخ، فقد حدثت في السنوات العشر التي سبقت الحروب كوارث طبيعية ومجاعات قاتلة، ولا سيما شمال فرنسا وغرب ألمانيا، ولعل ذلك يفسِّر خروج كثير من جموع الفلاحين والأقنان من تلك المناطق، إذ كان لا بدَّ لهم من موطن فيه طعام وشراب، وأينما كان ذلك الموطن، فلن يكون أسوأ من الموت جوعاً.
وإن من يتمعن في خطاب البابا أوربان الثاني، يستنتج الأسباب الدينية والاقتصادية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي دَفعته ودفعت الأمراء والفقراء في أوروبا للمشاركة في الحملة الصليبية الأولى، وقد شرحت تلك الدوافع في كتابي (صلاح الدين وجهوده في القضاء على الدولة الفاطميّة وتحرير بيت المقدس). وإن من أسباب الحملة الصليبية الأولى:
خرج الصليبيون من أوروبا تحدوهم الحماسة، والأطماع الدنيوية، ويحركهم الأمل في الغفران الكنسي الذي وعدهم به البابا في كليرمون.
أراد البابا من الحملة إبراز دور الكنيسة القيادي الديني والروحي في حياة الأوربيين.
تحسن الأوضاع الاقتصادية بنظر البابا؛ فبلاد المشرق التي ستفتح ستدر أموالاً كثيرة، والأوروبيون الذين لن يستطيعوا المشاركة سيدفعون للكنيسة الأموال؛ تكفيرًا عن امتناعهم عن الذهاب لفلسطين.
الثروات التي ستأتي من فلسطين والشام، ستحل الأزمات الاقتصادية التي تعاني منها أوروبا.
الرغبة في شن حرب مدمرة للمسلمين، وسيحقق البابا بحربه حُلمًا عاطفيًّا دينيًّا قديمًا، بالسيطرة على الأرض التي وُلد وعاش فيها المسيح (عليه السلام)، وتخليص القدس من ظلم وتسلط المسلمين، والذين نسب إليهم في خطبته كل الشرور والآثام، حسب ادعاءاته.
رغبة البابوية في ضم الكنيسة الشرقية الأرثوذكسية إلى الكنيسة الكاثوليكية، وهو الذي جاء من أقصى البلاد لينقذ النصارى الشرقيين من المسلمين! (صورتان للقدس: الأسر الصليبي والتحرير الإسلامي، راغب السرجاني، قصة الإسلام، 15/09/2020).
ثالثاً: الحملة الصليبية الأولى: مجرياتها وأحداثها
كانت الثمرة الطبيعية للدور الدعائي الكبير الذي قام به البابا أوربان الثاني، ومن وثق فيهم قيام الحملة الصليبية الأولى، والتي انقسمت إلى قسمين: حملة العامة، والثانية حملة الأمراء، وحظيت الحملة الصليبية الأولى بشقيها اِهتماماً لا نظير له من المؤرخين المعاصرين سواءً اللاتين، أو البيزنطيين، أو المسلمين، وكذلك من جانب المؤرخين المحدثين الذين تخصصوا في دراسة الحروب الصليبية، ولعلَّ مرجع ذلك يكمن في النتائج الخطيرة التي نتجت عن تلك الحملة على نحو خاص؛ حيث أدت إلى تأسيس إمارات صليبية في الشرق طال عُمر بعضها إلى قرنين من الزمان (صلاح الدين الأيوبي، علي محمد الصلابي، 2008م، 47).
حملة العامة الغوغاء
بعد دعوة البابا أوربان الثاني للحملة، قامت حركة شعبية ضخمة ارتبطت باسم (بطرس الناسك) الذي بدأ يتجول غرب أوروبا بثيابه الرثة، وقدميه العاريتين، وحماره الأعرج يدعو العامة والدهماء للحملة، وقد استجابوا له بسرعة غريبة؛ استجاب له الفلاحون، والمعدمون بسبب الظروف القاسية التي كانوا يعيشون فيها، فلا داعي للخوف لديهم من الموت، وهم في حالٍ أقرب إلى الموت البطيء فعلاً، ومن ثم ظهر زعيم آخر من زعماء الحملة من أوساط العامة، وهو (والتر المفلس)، وسرعان ما قاد أتباعه عبر هنغاريا، ومن ثم أراضي الدولة البيزنطية، وفي الطريق إلى بلاد المشرق الإسلامي، وخلال مسيرة تلك الجموع الصليبية في البلاد النصرانية، وتحت راية الصليب، أخذوا ينهبون، ويسلبون، ويعتدون على الأهالي الآمنين.
ورغم كل ذلك، فقد رحب الحكَّام البيزنطيون في البلقان في أول الأمر بتلك الجموع الهائمة، رغم مظهرها الرث، وتنظيمها السيء، وجهل أفرادها بأبسط مبادئ القتال، وشق حَمَلَةُ الصليب طريقهم إلى صوفيا، وأدرنة، حتى بلغوا القسطنطنية في رجب 489ه/ يوليو 1096م، وهناك سمح لهم إمبراطور بيزنطة بالانتظار خارج أسوار العاصمة حتى وصول بطرس الناسك، أما بطرس الناسك فقد غادر كولونيا في ربيع الثاني 489ه/ إبريل 1096م، وذلك على رأس جمع غفير مخترقاً ألمانيا وهنغاريا، وقد أحدثوا مذبحة بين أهالي هنغاريا في بلدة (سملين) أسفرت عن مقتل أربعة آلاف من أهلها الأبرياء، وذلك بسبب الحصول على الميرة اللازمة لهم.
واستمر الغوغاء من أتباع بطرس الناسك في طريقهم إلى البوسفور، ينهبون ويسلبون كل ما يصل إلى أيديهم؛ حتى وصلوا إلى أسوار القسطنطينية، حيث وجدوا والتر المفلس وجموعه في الانتظار، وهكذا أحسَّ الإمبراطور البيزنطي وشعبه بخيبة أمل واضحة بوصول هؤلاء الدهماء هؤلاء إلى بلاده، ليحصلوا على الغذاء، والكساء إن لم يكن بالطرق السلمية، فليكن عن طريق السلب والاعتداء على الرعايا الآمنين، ولذلك بدأ الإمبراطور بنقل تلك الجموع إلى الشاطئ الآسيوي للبوسفور، وأشار عليهم بالانتظار قرب البوسفور حتى تصل الجيوش النظامية من الغرب (الجهاد والتجديد في القرن السادس الهجري، ص 90).
ونظراً إلى ما اتصفت به الحملة منذ البداية من عدم وجود قيادة موحدة، يُفسَّر ما حدث عقب الانتقال مباشرة إلى آسيا الصغرى؛ إذ إن جموع الألمان، والإيطاليين، والفرنسيين، راحت تتسابق، وتتنافس في شن الغارات، وعمليات النهب، وتخريب المناطق الزراعية، فسلبوا سكان القرى دون تفرقة بين المسلمين والنصارى، كما أنهم لم يستجيبوا لنصيحة الإمبراطور البيزنطي بوجوب البقاء في قلعة كيفتوت حيث المعسكر الصليبي، وعدم القيام بأيِّ تحرك قبل وصول الحملة النظامية (تاريخ سلاجقة الروم في آسيا الصغرى، ص 80).
وقد بدأت الصدامات الأولى بين الجموع الصليبية والسلاجقة، عندما قَرر الصليبيون الزحف باتجاه نيقية، وتجاوز رينالد النورماني هذه المدينة، ووصل إلى قلعة أكسيريجون، واستولى عليها، واتَّخذ منها قاعدة اِنطلاق للإغارة على الأراضي الزراعية المجاورة للقرى القريبة. وقد أثارت هذه التعديات حفيظة قلج أرسلان، فأرسل القائد إيلخانوس على رأس جيش كبير لاسترداد القلعة، فضرب الحصار عليها، فاستبد اليأس بالمحاصرين، وقرَّر رينالد أن يستسلم ففتح أبواب القلعة للجيش السلجوقي بعد أن حصل على وعد من قائده بالإبقاء على حياته إذا اعتنق الإسلام، وسيق رينالد وأتباعه ممن اعتنق الإسلام إلى إنطاكية، وحلب، وخراسان، وقُتل من بقي على نصرانيته (المصدر السابق نفسه).
بلغت أنباء استيلاء النورمان على القلعة مسامع الصليبيين في كيفيتوت، ولجأ السلاجقة إلى خطة ذكية كي يستدرجوهم إلى كمين سبق إعداده، فأشاعوا نبأ استيلاء القوات النورمانية على نيقية، وأنهم بصدد اقتسام الغنائم، فاشتدَّ الاضطراب في المعسكر، وطلب الجنود السماح لهم بالزحف إلى نيقية ليشاركوا النورمان حصصهم من الغنيمة، وهكذا راحت جموع الصليبيين تتوغل عبر آسية الصغرى في الطريق إلى نيقية، وهم على غير تعبئة، ودون تقدير لمقدرتهم القتالية، إلى أن جرى اكتشاف صدق ما حاق برينالد، فتحولت الإثارة إلى ذعر، وما إن اقتربت هذه الجموع البالغ عددها نحو عشرين ألفاً، من رافد نهر داركون؛ حتى تلقَّفتهم القوات السلجوقية، وأبادتهم، ولم ينج منهم سوى ثلاثة آلاف! وعندما سمع الإمبراطور البيزنطي بنبأ الكارثة بادر إلى إرسال بعض السفن نقلت الناجين إلى القسطنطينية. وبهذا تأكد الإخفاق الكامل لحملة العامة التي هي بمثابة التجربة الأولى للصليبيين في قتال السلاجقة، ولا مراء في أن النتائج التي تمخضت عن حملة العامة كانت على درجة كبيرة من الأهمية في تاريخ الحروب الصليبية، ومنها (الحروب الصليبية؛ العلاقات بين الشرق والغرب ، ص 72):
تأكد للغرب الأوروبي أنَّ الاندفاع العاطفي والعناصر الغير مدربة عسكرياً لا تجدي مع الفروسية الإسلامية.
أدى الفتك بآلاف الصليبيين إلى اِعتقاد قوى فاعلة في الغرب الأوروبي بمسؤولية الإمبراطورية البيزنطية عن تلك الكارثة، على الرغم من أن الإمبراطور الكسيوس كوميتي أوصى جحافل العامة بضرورة التريث دون جدوى.
من نتائج حملة العامة أن ظهر الإصرار من جانب الغرب الأوروبي على قيام حملة جديدة هي حملة الأمراء التي ستتمكن من تحقيق نجاحات كبيرة في الشرق، وستقلب موازين القوى العسكرية والسياسية لصالح الصليبيين إلى حدٍّ كبير.
إنَّ إغراء ثروات المشرق لرهبان وتُجار وفقراء أوروبا، دلَّ عليه سلوك الحجاج الصليبيين المرافقين للحملة الذين انتهكوا حرمات أبناء ملتهم من مسيحيي الشرق، أتباع المذهب المسيحي الأرثوذكسي، وقاموا بنهب مزارعهم وأسواقهم، واسترقوا نساءهم وأطفالهم في أراضي البلغار والأناضول وأنطاكية والقـدس، كما تُوجت الانتهاكات بالحملة الصليبية الرابعة التي غيرت طريقها من مصر، واستولت على القسطنطينية عام 600ه/ 1204م (الحملات الصليبية.. دوافع دينية أم غايات أخرى، طالب الدغيم، الجزيرة نت، 12/ 05/ 2021م).
حملة الأمراء:
كانت هذه الحملة أكثر تنظيماً من حملة العامة؛ إذ ظهرت فيها الروح الإقطاعية واضحة، وتولى زعامتها عدد من الأمراء، لكلٍ منهم اتجاهاته وجنده وسياسته الخاصة، مما جعل تلك الحملة في حقيقتها عبارة عن عدَّة حملات (الحروب الصليبية الأولى، حسن حبشي، 1958، ص 65).
ويمكن تقسيم حملة الأمراء إلى أربع مجموعات اعتمد تنظيمها على التقسيمات الجغرافية، وكذلك الوضع الجنسي واللغوي للعناصر المشاركة فيها:
المجموعة الأولى؛ فكان على رأسها جود فرد البويوني، وأخيه بلدوين، وقد قادا جيش القلاندرز، واللورين، وشمال غرب فرنسا.
المجموعة الثانية: كان على رأسها بوهيمند النورماني، وهو ابن روبرت جويسكارد الزعيم النورماني البارز، وقد قام بقيادة النورمان الإيطاليين، وكذلك ابن أخته تانكرد.
المجموعة الثالثة: على رأسها ريموند كونت تولوز ومعه المندوب البابوي أدهيمر، وقد قادا جيوش جنوب فرنسا والبروفنسال.
المجموعة الرابعة: عكست الثقل العسكري لصليبية الأمراء، وفي نفس الحين حملت عناصر القوة والضعف في ان واحد نظراً للتنافس، والتناحر الذي توافر لدى القيادات العسكرية، وهو الأمر الذي سينعكس بدوره على أحداث تلك الحملة الصليبية.
رابعاً: السيطرة الصليبية على السواحل الشامية والقدس
سقطت إمارات ومدن المسلمين في بلاد الشام بيد الصليبيين، ومنها:
دخل الصليبيون مدينة القدس ومدن فلسطين، بعد أن غادرها قائد الحامية الفاطمية افتخار الدولة ورجاله. وأعقب الدخول الصليبي مذبحة رهيبة جرت على سكان القدس المدنيين من دون تمييز مسلم عن مسيحي، وأبيحت المدينة المقدسة عدة أيام للنهب والسلب والتخريب والقتل، وفاض الدم في شوارعها وطرقاتها وساحاتها لدرجة أن المؤرخين الصليبيين من شهود العيان تباهوا بأن الخيول كانت تخوض في دماء الضحايا. وذكر أحدهم أنهم كانوا يحرقون ضحاياهم ثم يفتشون في الرماد عن الذهب الذي كان معهم. وفي هذا الجو الموحش الكئيب اجتمع الصليبيون في كنيسة القيامة، وأياديهم تقطر دمًا ووجوههم تنطق تعبًا، وجباههم تتفصد عرقًا، لكي يؤدوا صلاة الشكر!
وبقيت جثث الضحايا مطروحة في أنحاء المدينة أيامًا عدة، وفاحت في المدينة رائحة الحريق والدخان ممزوجة بنتن الجثث. وعندما خفت شهوة القتل لدى الصليبيين، كانت أولى المهام الاستعمارية التي واجهتهم هي مواراة الجثث وتنظيف المدينة وتنظيم الاستيطان الصليبي فيها. ثم بدأت نقاشات إدارة حكم المدينة.
ويصف المؤرخ وليم الصوري مذبحة القدس، بوصفٍ تقشعرّ له الأبدان، حيث قال: ولم يكن مشهد الجثث التي فُصلت الرّؤوس عنها، والأضلاع المبتورة المتناثرة في جميع الاتجاهات؛ هو وحده الذي أثار الرّعب في كلّ من نظر إليها، فقد كان الأرهب من ذلك، هو النّظر إلى المنتصرين أنفسهم، وهم ملطّخون بالدّماء من رؤوسهم إلى أقدامهم!
ووصف شاهد عيان إفرنجي المذبحة التي أحدثها الصّليبيّون بالقدس بقوله: شاهدنا أشياء عجيبة، إذ قطعت رؤوس عدد كبير من المسلمين، وقتل غيرهم رمياً بالسّهام، أو أرغموا على أن يُلقوا بأنفسهم من فوق الأبراج.. وكنّا نرى في الشّوارع أكوام الرّؤوس والأيدي والأقدام.
هكذا كانت الصورة الأولى للقدس، صورة تضج باللون الأحمر لون الدم والنار، يحيط به ويتخلله اللون الأسود، لون الدخان والحزن والحقد والغضب. هذه الصورة رسمها غزاة غاصبون جاؤوا تحت راية الدين لكي يزرعوا مستوطناتهم على الأرض الإسلامية في فلسطين.
ومرت سنوات طوال على المدينة الأسيرة بلغت بضعًا وثمانين سنة، قبل أن يتمكن صلاح الدين الأيوبي من تحريرها في 27 رجب 583ه/ 2 أكتوبر 1187م، وأقيمت خطبة الجمعة في المدينة المحررة بعد أن ظلت ممنوعة زمنًا طويلًا (السرجاني، صورتان للقدس: الأسر الصليبي والتحرير الإسلامي، قصة الإسلام، 15/09/2020).
وهكذا، احتل الصليبيون المدن الشامية واحدة تلو الأخرى بعد سيطرتهم على مدينة القدس، ومنها: طرابلس الشام، وبيروت وصيدا وصور، وعسقلان وعكا وغزّة ويافا، وغيرها.
خامساً: أحوال الأمة الإسلامية في مرحلة الهجمة الصليبية الأولى على العالم الإسلامي
مع قدوم الحملة الصليبية الأولى، كانت الأمّة الإسلاميّة تعيش حالة من التّمزّق والضعف والانهيار، ولذلك استطاعت الحملة أن تحقّق أهدافها، ومن مظاهر هذا التمزّق:
انعدام الوحدة السّياسيّة في العالم الإسلاميّ
الموقف السلبي لبعض الإمارات الإسلاميّة من الغزو.
الإمدادات الأوربيّة المتواصلة للحملة الصليبيّة.
الاستبداد السياسيّ والانحراف عن قيم الإسلام.
انشغال بعض فقهاء الأمة في معارك في فروع المسائل والأحكام.
وهكذا، أثار البابا أوربان الثاني ورجال الدين لغاياتهم الخاصة، شهية الأمراء والفقراء للمشاركة بالحملة الصليبية الأولى، وامتازت الحملات الصليبية بالسلوك الإجرامي والانتقامي والوحشي تجاه المسلمين والنصارى وكل سكان المشرق داخل المناطق التابعة للإمبراطورية البيزنطية أو البلاد الإسلامية، وهذه كانت أول موجة غربية استعمارية مبكّرة في العمق الإسلامي “فلسطين والساحل الشامي”.