ملفات ساخنة

حين احتلت بريطانيا القدس وأجبرت المصريين على قتال الأتراك

نشر موقع ميدان التابع لشبكة الجزيرة، مقالاً يسلط الضوء على الفترة التي احتلت فيها بريطانيا القدس وأجبرت المصريين على قتال الأتراك فيها.

 

وذكر المقال الذي كتبه الباحث محمد شعبان أيوب، أنه “في صباح 15 سبتمبر/أيلول عام 1882، أعلن الإنجليز في شوارع القاهرة نهاية الثورة العُرابية والاستقلال الذي بدأ مع مجيء محمد علي باشا (1805-1849) وأولاده من بعده حتى حفيده توفيق، وفرض الاحتلال على مصر. وقد أعلنوا في البداية أن مهمتهم تتمثَّل في تحقيق الأمن في البلاد، وضمان سيطرة الخديوي الذي استعان بهم لهذه الغاية ضد عرابي وأعوانه، ومن ثم الجلاء السريع، لكن ذلك لم يحدث طوال 72 سنة تالية، وسرعان ما أعلنت بريطانيا تعيين اللورد كرومر معتمدا ساميا عن ملكة بريطانيا، ثم شرعت في السيطرة على مفاصل مصر الاقتصادية والمالية والعسكرية، فصارت الحكومات المتعاقبة مجرد تابع لما يُمليه المعتمدون والمندوبون الساميون البريطانيون في مصر”.

 

ولكن بعد مرور خمسة عشر عاما على الاحتلال البريطاني، بُعثت في مصر روح ثورية مع ميلاد الحركة الوطنية الجديدة على يد مصطفى كامل ومحمد فريد ورفاقهم الذين ناضلوا بكل عزم وقوة لفضح الممارسات البريطانية في مصر، وعلى رأسها تجذُّر الاحتلال، وقطع العلاقة بين مصر والدولة العثمانية. وقد كتب في ذلك مصطفى كامل كتابه الشهير “المسألة الشرقية”، وأُثر عنه في حوار صحفي أجراه مع صحيفة “نيويورك هارولد” في خريف سنة 1896 قوله: “إن سياسة مصر نحو الدولة العثمانية -وهي السياسة التي يجري عليها الوطنيون الصادقون- هي سياسة حُسن التقرُّب منها، وتوطيد العلاقات الحسنة معها، والتاريخ يُعلِّمنا ألا نتَّبعَ سياسة حيالها غير هذه السياسة.”

 

وفيما يلي النص الكامل للمقال:

 

وحين اعتلى الخديوي عباس حلمي الثاني (1892-1914) عرش مصر، عُرف عنه مناوئتُه -بقدر قوته وطاقته- للحكومات التي كان يفرضها الإنجليز وكرومر، وتقرُّبه من الحركة الوطنية بزعامة مصطفى كامل، واحترامه للسلطان عبد الحميد الثاني، وكان دائم التردد في الإجازات السنوية على إسطنبول كلما دعت الضرورة إلى ذلك. بالتزامن مع ذلك، ساءت سُمعة الإنجليز في أوساط الجماهير في مصر بعد احتلالهم للسودان واتفاقهم الودي مع فرنسا لتقسيم الأقطار العربية سنة 1904، ثم بعد حادثة دنشواي سنة 1906 التي أعدم فيها البريطانيون وعملاؤهم من المصريين مجموعة من الفلاحين الأبرياء في المنوفية ممن دافعوا عن أرضهم وممتلكاتهم ضد عبث الإنجليز واستهانتهم بمحرماتهم.

 

حاول الإنجليز تهدئة الأوضاع المشتعلة آنذاك بإقالة كرومر في عام 1907، لكن وفاة الزعيم مصطفى كامل في العام التالي 1908، والانقلاب على السلطان عبد الحميد الثاني في العام نفسه من قِبَل الاتحاد والترقي، وزيادة القمع البريطاني الداخلي، كل ذلك عمل على استمرار سيطرتهم على مفاصل مصر أمنيا وعسكريا واستخباريا واقتصاديا وسياسيا، ورغم كل هذه التطورات، ظلَّت مصر من الناحية الاسمية والقانونية تابعة للدولة العثمانية.

 

ثم نشأ التقارب العثماني-الألماني منذ أواخر القرن التاسع عشر، واشتعلت المواجهة بين الحلفاء والمحور بما أدَّى إلى دخول العثمانيين الأتراك ساحة الحرب العالمية الأولى (1914-1918) بجوار الألمان في مواجهة الإنجليز والفرنسيين والروس. وتعدَّدت جبهات المعارك آنذاك، فشملت البلقان والشرق الأوسط والقوقاز وشمال أفريقيا والخليج العربي والعراق ووسط أوروبا وغربها، لكن ما يلفت النظر أن الإنجليز -بدهاء وبطش في الوقت عينه- تمكَّنوا من إجبار المصريين على مواجهة الأتراك في إحدى الجبهات الخطيرة في تلك المعارك.

 

فكيف استطاع الإنجليز إجبار المصريين على الانضمام إليهم في مواجهة الأتراك؟ وما الأدوات التي استخدموها في سبيل ذلك؟ وكيف استطاع الإنجليز والمصريون المجبرون على الانضمام إليهم هزيمة الأتراك العثمانيين عند قناة السويس مرتين متتاليتين؟ وكيف شكَّل انتصار الإنجليز آنذاك إرهاصة من إرهاصات هيمنة بريطانيا على القدس التي ستُفضي في الأخير إلى خروجها من سلطان الخلافة، وانتقالها إلى سلطان الغرب ومن بعده إلى الحركة الصهيونية؟

 

كان ارتقاءُ الخديو إسماعيل بن إبراهيم بن محمـد علي باشا (1863-1879) بداية النهاية لمشروع الاستقلال الذي وضع أُسسه محمد علي وأبناؤه من بعده، بعد حروب وصراعات ضد الدولة العثمانية انتهت بتوقيع معاهدة لندن سنة 1841. بيد أن شق قناة السويس بدعم وتخطيط فرنسي وتنفيذ مصري، وإتمام ذلك عام 1869، والديون الهائلة التي وقَّع عليها الخديو إسماعيل وفوائدها الفاحشة التي لم يستطع أن يُسدِّد أقساطها في مواعيدها المحددة؛ اضطرته إلى بيع أسهم قناة السويس. وحصلت بريطانيا على نصيب الأسد في هذه الحصة عام 1875، ثم جاء احتلالها لمصر عام 1882 ليفرض السيطرة العسكرية التامة على قناة السويس ومصر بالكلية.

 

حرصت بريطانيا منذ لحظة الاحتلال في سبتمبر/أيلول 1882 وحتى أغسطس/آب 1914 على القبول بتبعية مصر للدولة العثمانية من الناحية الاسمية والقانونية، وبناء على هذا الأمر وقَّعت كلٌّ من الدولة العثمانية وبريطانيا وفرنسا وهولندا وألمانيا والمجر والنمسا معاهدة القسطنطينية سنة 1888، التي تنصُّ على حرية الملاحة في قناة السويس وعدم سيطرة دولة بعينها عليها، وحيادها في حالة الحرب، وكانت فرنسا على رأس المُنادين بحياد قناة السويس مع ألمانيا والدولة العثمانية بطبيعة الحال.

 

على أرض الواقع كانت بريطانيا المُتحكِّم الحقيقي في مصر، فلا الدولة العثمانية ولا ألمانيا ولا النمسا ولا فرنسا كان لها نفوذ على الأوضاع القائمة في البلاد، لكن من الناحية السياسية وُجِد تيار قوي منحاز نحو العثمانيين على رأسه الخديو عباس حلمي والحركة الوطنية. لذا حاول الخديو أن يُعلن حياد مصر في الصراع الذي لاح في الأفق بين الحلفاء والمحور، لكنه حين ذهب للإجازة الصيفية بإسطنبول في صيف عام 1914، أرغم الإنجليز رئيس الوزراء حسين رشدي باشا على إعلان مصر وقوفها بجوار بريطانيا في الحرب، وذلك في 5 أغسطس/آب 1914.

 

اللافت أن الدولة العثمانية، مُمثَّلة في السلطان، كانت وحدها صاحبة الحق السيادي في إعلان مصر أو غيرها من الأقطار التابعة لها الحربَ من عدمه، ولم تكن قد أعلنت الحرب فعليا آنذاك ضد بريطانيا حتى ذلك التاريخ، وقد حاول رشدي باشا مساومة بريطانيا على تقديم إعلان الاستقلال والجلاء عن مصر في أقرب فرصة مقابل انضمامها لها في الحرب، فوعده المعتمد البريطاني أن يعرض الأمر على حكومته التي رفضت هذا الأمر.

 

سعت بريطانيا بعد مرور شهرين أو ثلاثة من بداية الحرب إلى إعلان الحماية على مصر وفصلها تماما عن الدولة العثمانية، وقد حاول حسين رشدي والأمير حسين كامل، الذي سيختاره الإنجليز سُلطانا على مصر بعد قليل خلفا لابن أخيه الخديوي عباس حلمي، أن ينالا وعدا من البريطانيين بالاستقلال، “ففي مقابلة مع رونالد ستوزر، السكرتير الشرقي لدار المعتمد البريطاني، هدَّد حسين رشدي وعدلي باشا (عدلي يكن وزير الخارجية آنذاك) بالاستقالة إذا لم تُقدِّم إنجلترا لمصر وعدا بالحكم الذاتي مع إعلان الحماية، كما رفض الأمير حسين كامل، الذي عُرض عليه العرش في ظل النظام الجديد، العرضَ البريطاني لأنه لم يستطع قبول الخديوية بدون منح مصر -أو على الأقل صدور وعد بمنحها- الاستقلال الذاتي.”

 

لم تقبل بريطانيا هذه الشروط، وفي أوائل نوفمبر/تشرين الثاني 1914، أعلنت الأحكام العُرفية في مصر، فما “من امرئ يستطيع الإقدام على الكلام عنها أو مناقشتها أو إبداء رأي فيها، وإلا عرَّض نفسه للاعتقال فالنفي بلا تحقيق أو محاكمة”، كما يقول أحمد شفيق باشا في “حوليات مصر السياسية.”

 

وهكذا لم تعبأ بريطانيا بمطالب الأمير حسين كامل ولا رئيس الوزراء حسين رشدي، وفي 19 ديسمبر/كانون الأول من العام نفسه قَبِل حسين كامل -بلا شرط مما سبق- أن يكون سُلطانا على مصر تحت حماية “الاحتلال” البريطاني بعد خلعهم ابن أخيه الخديو عباس حلمي قبل ذلك بيومين، وبذلك أصبحت إنجلترا سيد مصر بلا منازع حتى من الناحية الاسمية والقانونية، وانسلخت مصر من الباب العالي نهائيا.

 

وبعد إعلان الأحكام العُرفية، وتمهيدا لإعلان الحماية وإيمانا من الإنجليز بالعلاقة الوثيقة التي جمعت المصريين بالدولة العثمانية، أعلنت بريطانيا على لسان قائدها العسكري في مصر “جون جرانفيل ماكسويل” أنه “بما أن للسلطان بصفته الدينية من الاحترام والاعتبار عند مُسلمي القُطر المصري، فقد أخذت بريطانيا العظمى على عاتقها جميع أعباء هذه الحرب بدون أن تطلُب من الشعب المصري أية مساعدة.”

 

من ناحية أخرى، كانت الإجراءات البريطانية في مصر منذ قُبيل الحرب العالمية الأولى في يوليو/تموز 1914 قد استفزت العثمانيين الأتراك. فقد سلَّحت بريطانيا قواتها على طول قناة السويس، وأقامت التحصينات العسكرية والخنادق في كبرى المدن المصرية، الأمر الذي اعتبره العثمانيون بقيادة أنور باشا وزير الحرب، وجمال باشا وزير البحرية، وطلعت باشا وزير الداخلية (الثلاثي الشهير قادة انقلاب حركة تركيا الفتاة والسادة الحقيقيون للدولة العثمانية آنذاك)، اعتبروه عدوانا يجب صدّه وردّه.

 

وقد بقيت أقطار الشام كلها بما فيها فلسطين حتى الحدود مع مصر عند رفح تحت النفوذ العثماني، وكانت خطة العثمانيين بقيادة جمال باشا قائد الجبهة الشامية وداعميه الألمان هي الانطلاق من فلسطين باتجاه مصر من خلال سيناء والعبور إلى الضفة الغربية للقناة. ويقول المؤرخ الفلسطيني عارف العارف في كتابه “تاريخ غزة”: “فإذا تحكَّمَ الأتراك في هذه القناة عرقلوا وسائط النقل بين إنجلترا والهند، فيضطر الإنجليز إلى أن يجتازوا طريقا للهند غير قناة السويس وهو رأس الرجاء الصالح، وفي هذا ما فيه من كُلفة وعناء ووقت طويل، وهذا ما كان يرمي إليه الأتراك يُعضدهم في ذلك حلفاؤهم الألمان.”

 

وبالفعل بدأت استعدادات الأتراك في الشام وفلسطين، فبلغ مجموع قواتهم 12642 جنديا مجهزين بسرية من الهجّانة وعدد من المدافع الثقيلة والبنادق السريعة، وضُم إليهم ما يقارب 1350 حصانا وثورا لجر المدافع عبر صحراء سيناء، فضلا عن سبعة آلاف جمل للغرض نفسه. وفي 14 يناير/كانون الثاني 1915 شرعت هذه الكتائب في الزحف باتجاه قناة السويس، وكانت تزحف ليلا وتستريح نهارا، فعبرت كامل سيناء ولم تلقَ مواجهة من الإنجليز الذين فضَّلوا البقاء في الضفة الغربية للقناة عند الإسماعيلية والسويس.

 

ورغم أن الإنجليز تعهَّدوا في حيثيات إعلان الأحكام العُرفية وإحكام قبضتهم العسكرية على البلاد أنهم لن يعتمدوا على المُقدَّرات المصرية البشرية أو اللوجستية في هذه الحرب، فقد حنثوا بوعدهم، وكذبوا كعادتهم، وأرغموا وحدات من الجيش المصري، الذي قُدِّر عدد قواته ما بين ستة إلى عشرين ألف مقاتل آنذاك، على الانضمام لهم. وحين بلغت قوات العثمانيين الأتراك ومَن عاونهم من الألمان الضفة الشرقية للقناة، وتمكَّنت سرية مُكوَّنة من 600 جندي تركي من العبور إلى الضفة الغربية لقناة السويس؛ فوجئت بنيران شرسة من رشاشات ومدافع القوات البريطانية والقوات المصرية التي أُرغمت على الدخول في هذه المواجهة، لا سيما فرقة بطارية الطوبجية “المدفعية” الخامسة بقيادة الضابط ملازم أول أحمد حلمي الذي وقع قتيلا في هذه المعركة.

 

يقول أحمد شفيق باشا في “حولياته” عن اشتراك هذه الفرقة المصرية وقائدها: “في ليلة 2-3 فبراير/شباط 1915، حاول الأتراك اجتياز القنال بالقرب، فأُحبطت محاولتهم وتقهقروا بفضل الخدعة الحربية التي دبَّرها الملازم أول أحمد أفندي حلمي الذي كان يقود على الضفة الغربية من القنال البطارية الطوبجية المصرية الخامسة، إذ مدَّ الأتراك جسرا وقتيا منصوبا على زوارق الألومنيوم لعبور القنال عليه، فتركهم الملازم المذكور حتى أتموا الجسر وبدؤوا فعلا بالسير عليه، وإذ توسّطوا الجسر فاجأهم بإعمال نيران مدافعه فيهم وهم يظنون أنهم في أمان من كل اعتداء، ولكن هذا الملازم لسوء حظه لقي حتفه في هذه الموقعة بعد انتصاره، فشكر عظمة السلطان (حسين كامل) الجيش المصري على اشتراكه في القتال، ومنح الضباط والعساكر ميداليات مكافأة لهم على حسن بلائهم. على أن هذا الأمر، أي اشتراك الجيوش المصرية في الدفاع عن مصر، جاء مخالفا لما تعهَّد به الإنجليز من تحمُّل أعباء الحرب وحدهم دون الاحتياج لأي مساعدة من قِبَل المصريين.”

 

في العموم، لم تملك القوات التركية معدّيات أو جسورا كافية لعبور قناة السويس، وواجهت قوة نيرانية هائلة من المدفعية البريطانية والمصرية التي تركَّزت على الضفة الغربية للقنال فضلا عن بعض قطع الأسطول البريطاني الراسية في البحيرات المرة قُرب الإسماعيلية. ومن ثمَّ انفضت المعركة في ساعات قليلة، وترك الأتراك وراءهم ما يقارب 1300 قتيل، فضلا عن نفوق عدد كبير من الإبل بسبب الحر والمشقة الزائدة، ولم يخسر الإنجليز سوى 175 قتيلاً، ولم نعرف على وجه الدقة عدد المصريين الذين سقطوا في هذه المعركة التي عُرفت في المصادر التركية بـ “سفربرلك”، أي الحملة العسكرية.

 

اعترف جمال باشا المعروف بالسفّاح (1873-1922)، قائد هذه الحملة الفاشلة على قناة السويس، في مذكراته بأن أغلب اللوجستيات المُتعلِّقة بنقل الجنود عبر الطرق التي كان يجب تعبيدها وقطارات نقل المعدات والجنود لم تتوافر، وكذا بتأخر الإمدادات اللازمة لهذه المهمة بسبب وعورة طرق وجبال الأناضول. ولهذه الأسباب اضطر للتحرُّك بقواته على عجَل نحو قناة السويس، و”بدون هذه الضروريات كان من الواجب على أغلبية العساكر المتجهة صوب قناة السويس أن تبقى في مؤخرة الحملة” على حد وصفه، وهو ما لم يحدث، وفشلت مهمته بطبيعة الحال.

 

لهذا السبب أعاد الأتراك والهيئة العليا الألمانية المُعاوِنة الاستعداد مرة أخرى في فلسطين لقيادة حملة جديدة ضد البريطانيين واسترداد قناة السويس، وذلك من خلال تعبيد الطرق وجمع القوات الكافية لهذه المهمة، وتوفير الإمدادات الطبية والعسكرية والغذائية اللازمة. لكن شراسة المعارك ضد أعداء العثمانيين من الروس والإنجليز والفرنسيين في جبهات القوقاز والعراق والجزيرة العربية والدردنيل والبلقان أجبرت الأتراك على التأخُّر في الهجوم الثاني، بينما راح الإنجليز يُعزِّزون وجودهم في مصر، ويجلبون قوات أسترالية وهندية ونيوزلندية، و”بدأ المسؤولون في لندن يُعيدون النظر في تعهُّدهم بإعفاء المصريّين من الخدمة العسكريّة، وبدأت الأصوات تتعالى بين المسؤولين البريطانيّين بأنّ مصرَ لا تضطلع بمهامّها في تلك الحرب.”

 

في إبريل/نيسان 1916، بدأت الحملة التركية بقيادة الأميرلاي “العميد” الألماني كرس فون الذي كان شاهدا على فشل الحملة الأولى، واستطاع الأتراك جمع قوة بلغت 20 ألف جندي، نصفهم فقط مقاتلون، كما تمكَّنوا من تمهيد الطرق وتحسين بعض الأوضاع التي فشلوا فيها سابقا، وضمّوا إليهم كتيبة من الخيّالة، لكن عدد القوات البريطانية في مصر بعد الإمدادات العسكرية التي جاءتهم من كل حدب وصوب بلغ نحو 300 ألف مقاتل، فامتلكوا في هذه المعركة ثلاثة ألوية من الخيالة، فضلا عن قوات متقدِّمة للغاية من المدفعية والميكانيكا وغيرها. ونظرا لهذا التفاوت الكبير في القدرات العسكرية بين الفريقين، فشل الأتراك في عبور قناة السويس في حملتهم الثانية التي بدؤوها فجأة في 4 أغسطس/آب 1916، وكانت خسائرهم هذه المرة ألف قتيل وثلاثة آلاف أسير، أما خسائر الإنجليز فبلغت 1130 قتيلا.

 

أدَّت هزيمة الحملة التركية الثانية على قناة السويس إلى نتائج كارثية في مسيرة الحرب العالمية الأولى بالشرق الأوسط، إذ انتقل الإنجليز من موقع الدفاع عن مصر إلى الهجوم شرقا، وقرَّروا طرد الأتراك واحتلال فلسطين من خلال سيناء. ولتحقيق هذه المهمة الكبيرة؛ طلب الإنجليزُ “من الفلّاحين المصريّين أن يتطوَّعوا للخدمة في الجيش البريطانيّ نظير إعفائهم من التجنيد في الجيش المصريّ. وبالتالي أصدر وزير الحربيّة البريطانيّ قرارا في 20 أكتوبر/تشرين الأوّل 1917 بتعديل بعض أحكام قانون القُرعة العسكريّة، ونصّ القرار الجديد أنّ كلّ شخص مطالب بأداء الخدمة العسكريّة سيُعفى من أداء هذه الخدمة إذا تطوَّع للخدمة لمدّة عام واحد متّصل في الخدمات الملحَقة بالقوّات البريطانيّة، وهكذا وُلدتْ «فيالق العمل المصريّة»”، كما يقول المؤرخ خالد فهمي.

 

يُخبرنا المؤرخ البريطاني “كايل أندرسون” صاحب كتاب “فيالق العمل المصرية؛ العُمال والفلّاحون والدولة في الحرب العالمية الأولى”، اعتمادا على الوثائق التي اطّلع عليها في دار الوثائق البريطانيّة، “أن عدد الفلّاحين الذين جُمعوا من ربوع مصر كافة وأُجبروا على الخدمة في فيالق العمل ناهز الربع مليون، بالإضافة إلى نحو مئة ألف فلّاح آخرين شكَّلوا وحداتِ مساعدة إضافيّة (للجيش البريطاني). وبالتالي فالرقم الإجماليّ الذي يذكره كايل أندرسون هو 327 ألف رجل. كانت أوّل مهمّة اشترك فيها هؤلاء الرجال هي العمل عُمَّال نقْل في الحامية العسكريّة المصريّة في حملتها بسيناء ثمّ في فلسطين، حيث مدَّوا خطوط السكك الحديديّة وأفرغوا حمولاتِ السفن قبالة السواحل الفلسطينيّة. كما خدموا في العقبة وبلاد الرافدين وسالونيك ومودروس وفرنسا.”

 

أُجبر هؤلاء الفلاحون المصريون إذن على خوض الحرب ضد الأتراك ثم تعبيد الصعوبات اللوجستية كافة والإمدادات ومد السكك الحديدية وغيرها في الطريق من قناة السويس مرورا بسيناء وحتى غزة ثم القدس في قلب فلسطين. وبقيادة الجنرال ألنبي استطاع الإنجليز في ديسمبر/كانون الأول 1917، وبعد سلسلة هزائم حاقت بالأتراك في غزة ونابلس وغيرها، احتلال القدس في ذلك التاريخ بعد أربعة قرون من سيطرة العثمانيين عليها، لتدخل فلسطين منذ ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا في دوامة من الصراع والعنف، دبَّرها جنرال بريطاني ونفَّذها فعليا عبر ضرب المصريين بالأتراك.

زر الذهاب إلى الأعلى