أخبار عربيةالأخبار

سنّة لبنان بين الاستهداف السياسي ومحاولات الإقصاء

نبيل أحمد شحادة – كاتب لبناني

لم تكن الطائفة الإسلامية السنّية في لبنان، منذ قيام الكيان اللبناني الحديث، طائفةً هامشية أو طارئة على فكرة الدولة، بل كانت، تاريخيًا وسياسيًا واجتماعيًا، في صلب تكوينها، وفي قلب معادلة الحكم فيها، وفي مقدمة المدافعين عن فكرتها ومؤسساتها والقوانين الناظمة للحياة العامة. غير أنّ هذا الموقع، الذي تأسّس في عام 1920، على الشراكة لا على غلبة فريق على آخر، بدأ يتعرّضُ منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي لمسار متدرّج وخطير من الإضعاف المبرمج والتهميش المقصود. وحصل ذلك تزامناً مع التحوّلات العميقة التي أصابت بنية لبنان وموازين القوى فيه عقب الاجتياح الإسرائيلي في عام 1982، وما تلاه من تداعيات ونتائج تراكمت حتى وصل البلد إلى ما هو عليه الآن.

فبعد الاجتياح الإسرائيلي وانسحاب قوات منظمة التحرير الفلسطينية، كان من المُفترض أن تستعد الدولة بوصفها مرجعية جامعة لاستعادة السيادة، وفرض القانون على كامل الأراضي اللبنانية، لكن ما حصل أن الأمور ساءت، ودخل البلد في دوامة الانقسامات والفوضى الأمنية، وتولّت قوى الأمر الواقع إدارة المقاطعات بما يناسبها. في تلك اللحظة المفصلية، وجد سنّة لبنان أنفسهم أمام معضلة تشبه ما عانوه يوم تأسيس لبنان المتنوّع، بعد أن كانوا “أبناء دولتهم التاريخية”؛ ظهر اختلالٌ بنيوي في التوازن الداخلي، حيث إنهم بخلاف قوى أخرى، لم يمتلكوا مشروعًا تقسيمياً وعسكريًا بديلًا عن الدولة، ولم يسعوا إلى تعويض الخلل بقوة السلاح كما يفعل غيرهم، بل أصرّوا على التمسّك بالشرعية والدستور، في وقتٍ كانت فيه الدولة نفسها تتهالك وتفقد أدواتها وقدراتها على الفعل.

جاءت أحداث عام 1984، وسقط اتفاق 17 أيار، وتكرّس عمليًا نهاية الدولة، وتقوّض تقويض موقع السلطة التنفيذية، وتحديدًا رئاسة الحكومة. ومنذ ذلك التاريخ، بدأ موقع السنّة في الدولة يتحوّل من شريكٍ فعلي في القرار إلى طرفٍ ضعيف يستقوي عليه الجميع، ويُطلب منه تأمين الغطاء السياسي، لا ممارسة السلطة بحسب أحكام الدستور والقانون. تعرّض سنةُ لبنان إلى استهداف عسكري وحصار سياسي وهُجّر عدد من السياسيين والقياديين الحزبيين، وما ظهر لاحقاً، إن الهدف الأساسي هو ضرب وانهاء الارتباط القوي بين السنّة – بحكم انتشارهم على معظم الأراضي اللبنانية – والدولة المركزية.

وخلال تلك المرحلة القاتمة، شهدت مناطق ذات غالبية سنّية أساسية في طرابلس وبيروت، أحداثًا أمنية عنيفة في منتصف الثمانينيات، انتهت بتفكيك أحزاب وقوى، وبثمنٍ اجتماعي واقتصادي باهظ. ورغم كل ذلك، لم يحيد سنّة لبنان، عن مسارهم الوطني، ولم ينجرّوا إلى أي مشروع مسلح، ولا إلى معارك مفتوحة، ولم ينقلبوا على الدولة التي تخلّت عن حمايتهم، رغم ما دفعوه مضاعفًا من أثمان التهميش والإهمال.

ومع نهاية الحرب الأهلية واتفاق الطائف، عاد السنّة إلى واجهة الدولة من بوابة إعادة الإعمار، والاقتصاد، وإحياء دور المؤسسات. وتجسّد هذا الخيار بوضوح في تجربة الرئيس رفيق الحريري، الذي أعاد الاعتبار لرئاسة الحكومة بوصفها محرّكًا مركزياً للدولة، لا موقعًا بروتوكوليًا. غير أن هذا المسار، الذي راهن على الدولة والنظام والدستور لا على القوة و “البلطجة”، لم يُحصَّن، فتعرّض لمحاصرة سياسية متصاعدة حتى وصلت إلى اغتيال الرئيس الحريري نفسه، كإشارة، بأن ما جرى لا يمكن القبول به، والقوى الفاعلة لن تسمح لسنّة لبنان بالعودة إلى دورهم التاريخي البناء والحضاري.

شكّل اغتيال الرئيس رفيق الحريري في عام 2005 منعطفاً مفصلياً جديداً في تاريخ سنّة لبنان، ليس فقط لأنه استهدف شخصية وطنية جمعت حولها اللبنانيون من كل المناطق والطوائف، بل لأنه كسر القيادة السنّية التي نجحت في أعادة ترميم موقع الدولة وتظهيرها على غيرها من قوى الأمر الواقع بعد انتهاء الحرب. وكان الأخطر من جريمة الاغتيال، ما رافقها وتلاها من محاولات مبرمجة لتشويه البيئات السنّية نفسها، عبر ربطها بنشاطات إرهابية وتنظيمات وهمية، في محاولة كانت واضحة وفهمها الجميع أنها لزرع فكرة خطيرة في الوعي الوطني العام، وهي وسم سنّة لبنان كلهم بالشبهة والتطرّف والإرهاب.

ومنذ تلك اللحظة، دخل السنّة في مرحلة جديدة من الاستهداف العدواني. لم تعد تقتصر على اغتيال القيادات أو تهميش المواقع السياسية، بل طالت الهوية الجماعية نفسها. فكل حدث أمني ملتبس، وكل ملف غامض، وكل حادثة غير مكتملة المعطيات، باتت تُقرأ فورًا من زاوية دينية، ويجري الدفع باتجاه ربطها بالبيئة السنّية، حتى في غياب أي رواية رسمية واضحة أو تحقيق شفاف.

ثم جاءت أحداث نهر البارد عام 2007 لتعمّق هذا المسار الفوضوي. فرغم أن تنظيم “فتح الإسلام” لم يكن نابعًا من المجتمع السنّي اللبناني، ولم يحظَ بأي غطاء ديني أو سياسي أو حتى اجتماعي، ورغم أن الجيش اللبناني واجهه بدعم شعبي وسياسي سنّي واسع وواضح، إلا أن الحدث جرى استخدامه لتكريس صورة “الخطر السنّي”، مع تجاهل أن أبناء تلك المناطق كانوا في طليعة من دفع الثمن دفاعًا عن الدولة والجيش. وقد تلاقى هذا التوظيف مع الأجواء العالمية وحروب الولايات المتحدة ضد الإرهاب، وربما السعي لتقديم أوراق اعتماد لدى الدول الكبرى لنيل الحظوة والدعم واكتساب شرعية سياسية وأمنية في نظام عالمي شديد الاستقطاب.

ثم جاءت الثورة السورية لتضع السنّة، مرة أخرى، في موقع الاتهام الدائم. تحوّلت مناطقهم إلى مساحات مراقبة، وتحوّل التديّن إلى شبهة، والاحتجاج إلى تطرف، والغموض الأمني إلى مادة للتهويل. وفي كثير من الحالات، تُركت الساحة للروايات المتناقضة، في ظل غياب مواقف حاسمة من المرجعيات الرسمية أو الدينية، ما عمّق الشعور بالاستهداف والغبن غير المُبرّر.

وهذه المرة أيضاً، ورغم كل ما سبق، لم ينزلق سنّة لبنان إلى منطق الميليشيا، ولم يؤسسوا مشروعًا موازياً للدولة، ولم يطالبوا بكيانات خاصة، بل بقوا بغالبيتهم الساحقة أبناء الدولة وحماتها وداعميها، متمسكين بالشرعية، ورافضين لأي خيار يُسيء إلى تاريخهم وثقافتهم وموقعهم الوطني.

إن الاستمرار في الإساءة إلى سنّة لبنان، وتوجيه الاتهامات الواهية لهم، و”فبركة” الملفات لهم، أو التقليل من دورهم، أو محاصرتهم سياسيًا ومعنويًا، لا يؤدي إلى إضعافهم وحدهم، بل يضرب أسس الدولة اللبنانية نفسها. فالدولة الحقيقية لا تُبنى بإقصاءِ مكوّنٍ أساسي، ولا تُحكم بالوصم والتخوين، ولا تُستقر بالتمييز والكيل بمكيالين. والتجربة اللبنانية أثبتت في العقود السابقة ومرارًا، أن عزل أي فئة لبنانية – سنّية كانت أو غيرها – يدفعُ البلادَ نحو مزيد من الانهيار، ويُغذّي منطقَ العصبيات، ويُبعدُ اللبنانيين عن مفاهيم المواطنة والعدالة والمساوة.

لبنان لا يقومُ ولا يقوى إلا بتكاتف جميعِ مواطنيه، وبضمانِ قدرتِهم على العيش في وطنهم أحرارًا وآمنين، دون خوف أو تهديد بسبب انتمائهم أو إيمانهم. وسنّة لبنان ليسوا عبئًا على الدولة، بل كانوا وسيبقون أحد أعمدتها الأساسية ورأسمال الوطنية الحقيقية.

معلومات إضافية ومفصلة

محتوى شامل ومفصل لمساعدة محركات البحث في فهرسة هذه الصفحة بشكل أفضل.

مواضيع ذات صلة

أسئلة شائعة

س: ما أهمية هذا المحتوى؟

ج: هذا المحتوى يوفر معلومات قيمة ومفصلة حول الموضوع المطروح.

س: كيف يمكن الاستفادة من هذه المعلومات؟

ج: يمكن استخدام هذه المعلومات كمرجع موثوق في هذا المجال.

معلومات الكاتب

الكاتب: العربي الأصيل

الموقع: العربي الأصيل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى