لبنان بين الممانعة والسيادة، والبدائل العاجزة

نبيل أحمد شحاده – كاتب لبناني
تعيش الجمهورية اللبنانية منذ عام 2005، على إيقاع انقسامٍ دائم بين محورين أساسيين، اولهما محور يرفع شعار “المقاومة والممانعة” ويستقوي بالسلاح وادعاءات محاربة اسرائيل، ومحور يقابله يطالب بسيادة الدولة وحصرية السلاح بها.
وفي وسط الصراع القائم والأزمات المتراكمة، تظهر من حين لآخر أصوات تدعو إلى سلوك مسار جديد وعصري وحديث يُساهم في خروج لبنان من “لُجّة” أزماته؛ خيار وطني مستقل يخرج من “مغناطيس” الاستقطاب، ويُخرج السياسة من مفاهيم الغنيمة الطائفية أو المكاسب الآنية، إلى معناها الطبيعي ودورها في خدمة المواطنين ورعاية شؤونهم ومصالحهم. لكنّ هذه الأصوات كانت دائماً معرّضة للخنق، وتفشل تجاربها في التحوّل إلى مشروع دائم يجذب القواعد الشعبية بسبب بنية النظام اللبناني السياسي المُصمّم منذ عقود طويلة على “تحطيم” أي بديل جدّي وطحنه قبل أن يقوى ويشتدّ عوده.
وفي مراجعة سريعة ندرك حجم المخاطر التي تحيط بكل مبادرة سياسية جديدة؛ فنبدأ من ستينيات القرن الماضي حيث شكّلت تجربة الرئيس فؤاد شهاب محاولة لتقديم بديل ولو من داخل النظام القائم، فأطلق مشروعا لإصلاح الادارة والقضاء وبناء المؤسسات في رؤية حديثة حاولت خلق توازن بين الأمن والانماء ومحاربة الفساد السياسي. مشروع شهاب اصطدم بجبهة عريضة شرسة مثّلت أمراء الطوائف وقادة الأحزاب الذين جمعهم الخوف من ما يُمكن تسميته “دولة المؤسسات”، والتي رأوا فيها تهديداً لنفوذهم وتحكمهم بالشعب واستغلالهم لحاجاته الدائمة، فتهاوت الشهابية، وسقط حلم أن يتحول لبنان إلى دولة حقيقية.
وفي نفس الإطار، برز ريمون إدّه كصوت سيادي ومستقل. لم ينخرط في أي محور، ولم يهادن من أجل منصب. ووقف ضد عسكرة الداخل، ورفض الوصاية من أية جهة أتت. مثّلَ إدّه وسط ضجيج الأزمات وقرقعة سلاح الحروب الداخلية خطاً اخلاقياً ووطنياً، لكنّه افتقد إلى قاعدة شعبية واسعة تسانده، فأُزيحَ إلى الهامش وإلى موقع أقرب منه إلى النسيان.
سليم الحص كان أيضاً نموذجاً لما تعارف الناس على تسميته بالنظيف. ارادها نظافة في الحكم، وسعى لتطبيق مفاهيم أخلاقية في الإدارة العامة لا تتناسب في سلطة غارقة إلى أذنيها في فساد الصفقات والعمولات والمحسوبيات، إضافة إلى وجود سوري بجيشه ومخابراته يحكم كل مفاصل البلد و”يدوزن” المواقف، ويوزّع الأعطيات. انتهت تجربة الحص، ليس لأن الطبقة السياسية فقط حاصرته، بل لأن القاعدة الشعبية خذلته وكان لها التزامات كما في التاريخ؛ قلوبهم مع سليم الحص، وجيوبهم ومصالحهم مع الزعامات.
ثم أتى رفيق الحريري على صهوة التوافقات الأقليمية والدولية ومدعوماً بكتلة مالية هائلة، فبنى لنفسه امبرطورية شعبية واسعة كسرت حدود الطوائف و”الكانتونات” وخرقت امتيازات السياسيين. استطاع أن يبني مساراً وطنياً جديداً في لبنان ضمن لعبة النظام نفسه وبكل ما فيه من مساوئ وارتكابات. هذه المرة، لم تتدخل المنظومة السياسية في ردع هذا الآتي المخيف، بل تجرأت تقاطعات قوى متعددة على اغتياله سياسياً ثم تصفيته جسدياً في رسالة مكتوبة بأطنان من الديناميت ومفادها أن يحذر أي كان من التلاعب بالتوازنات المرسومة في البلد.
الهدف من ذكر هذه الأمثلة البارزة هو التأكيد بأن الوضع في لبنان ومنذ الإستقلال تقريباً، كان لا يقبل الوسطية ولا الاعتدال ولا حتى النزاهة في القول والفعل، ولا يسمح بأي مشروع اصلاحي أو سياسي أو اقتصادي لا يقف في خط الاصطفاف الذي يسمح للفريقين “الحاكميْن” بتجميد مبادئهم المُعلنة مؤقتاً والدخول في التسويات وحسابات الربح والخسارة.
بعد “ثورة” 17 تشرين الأول، ومع خروج اللبنانيين من كل المناطق والطوائف إلى الشوارع والساحات، هاتفين ضد الطبقة السياسية “كلّها” وفي مشهد غير مسبوق، ظنّ كثيرون أن خطاً أو قُلْ محوراً ثالثاً قد وُلد أخيراً، وأنّ لبنان بدأ يتلمسُ طريقه إلى الخروجِ من نفقِ الضياع. ولكن الصراخ لا يبني مستقبلاً واليافطات لا تُرعب “المتمترسين” في السلطة، وضاعت هذه “الثورة” في ظل غياب القيادة والتنظيم والرؤية الموحدة، وخروقات نفذتها الأحزاب في صلب بنية “الثورة” فأحبطتها بالحديد والنار، وبقي الحراك الإحتجاجي دون نتيجة سياسية ملموسة حتى كاد أن يتبدّد ويتبخّر.
وفي مجال الانتخابات البلدية والنيابية، فحدّث ولا حرج عن كمية الشعارات الوسطية الرافضة للالتحاق بركب الأقوياء “الفاسدين”. ظهرت مجموعات أغلبها في بيروت، ودون الدخول في تسمياتها، حاولت بناء أُطُر جامعة، وقدّمت مشاريع مدنية تنموية وشفافة خارج القيود الطائفية، وبعضها كان ناضجاً وجريئاً ليقدم رؤية متكاملة، ضمن دولة مدنية عادلة دون وصاية خارجية، كما رسمَ بعضها معالجة علمية انقاذية وتنفيذية للانهيار المالي والاقتصادي. لكن هذه المجموعات، لم تقوى على إثبات نفسها أو تترجم قوتها في صناديق الاقتراع باستثناء قلّة من التغيريين تبيّن لاحقاً، أنّ معظمهم حريصٌ على استخدام نفس موازين أهل السلطة ودفاتر حساباتهم.
يبقى أن نُشير إلى أنّ تحركات المجموعات “المستقلة” كانت في أغلبها نخبوية وبعيدة عن “سمع” وقناعة القواعد الشعبية التي -حتى يومنا هذا- لا تنقاد إلّا بارادة الزعيم، ولا تخضع إلّا لقراره. وكانت ماكينات أركان السلطة والأحزاب عند كل مناسبة هي الأقوى بالتطييف والمال والقوة عند الضرورة، وجاهزة لاستنبات ورعاية أي “ملف” يُطيح بأحلام شريحة واسعة من الطبقة الوسطى وخاصة الشباب، مستندة إلى قانون الانتخاب “العجيب” الذي صُمّم لحماية الأحزاب التقليدية بالصوت التفضيلي والدوائر الطائفية.
لقد تأكد للجميع أن أية محاولة لخرق المنظومة السياسية – المتناحرة في العلن- محكومة بالفشل، واسباب ذلك كثيرة، ويمكن اختصارها كالآتي:
أولاً: قوانين انتخابية متعاقبة، تُصاغ كلها وتُضبط لحماية المنظومة واستمرارها في مناصبها ودور زعاماتها.
ثانياً: دولة عاجزة رهينة المحسوبيات والحصص والزعامات التي تحتكر الولاءات الشعبية وتتحكم بالمزاج العام، وتمنع قيام مشاريع وطنية جامعة.
ثالثاً: وجود سلاح غير شرعي خارج مؤسسات الدولة يهددُ أي طرحٍ إصلاحي، ويرهنُ القرارَ الأمني والسيادي لما يناسبه، ويسمحُ لنفسه بتحديد معايير الوطنية والخيانة وتوزيعها لمن يشاء.
رابعاً: ضعف الإمكانات التنظيمية والمالية للقوى الجديدة، وعدم قدرتها على خرق المؤسسات والهياكل الحالية التي استعبدت مؤسسات الدولة وحصرتها بمكاسب ومنافع المؤيدين والأتباع.
خامساً: إعلام ممسوك بالمال والنفوذ، ولا يمنح القوى الجديدة مساحات أو منابر مفتوحة للوصول إلى فئات الشعب، الذي يخسر قوامه بيأس شبابه وهجرتهم بحثاً عن “أمل” آخر وحياة هادئة.
الخلاصة. في ظل “العقم” الذي يعيشه لبنان بين مطرقة محور الممانعة الذي يخلو من رؤية لدولة “طبيعية”، وسندان محور السيادة العاجز عن انتاج بديل وطني آمن وجامع ومستقرّ، يحتاج اللبنانيون دائماً إلى تجارب سياسية جديدة، شرط أن يكون لديها معرفة راسخة بحقيقة وضع البلد وحجم التحديات التي تحكمه، وأن تملك المشروع العملي لمواجهة الطائفية السياسية التي تحكم البلد، وتعطيل الفساد المستشري في جسد الدولة، وأيضاً والأهم، أن تتحلى بالصلابة والجرأة والشجاعة لرفض كل سلاح يخرج عن القانون أو يعلو عليه.
معلومات إضافية ومفصلة
محتوى شامل ومفصل لمساعدة محركات البحث في فهرسة هذه الصفحة بشكل أفضل.
مواضيع ذات صلة
- وزير دفاع إسرائيل يجرد المدعية العسكرية المستقيلة من رتبها
- نازحو الفاشر قطعوا 60 كلم سيرًا على الأقدام دون طعام أو ماء
- كشف وثائق جديدة يعيد إحياء قضية اليهودي الأمريكي جيفري إبستين
- كاتب أميركي: شهر العسل بين اليمين الأميركي وإسرائيل انتهى
- قتيلان و10 مصابين في إطلاق نار بجزيرة كريت اليونانية
أسئلة شائعة
س: ما أهمية هذا المحتوى؟
ج: هذا المحتوى يوفر معلومات قيمة ومفصلة حول الموضوع المطروح.
س: كيف يمكن الاستفادة من هذه المعلومات؟
ج: يمكن استخدام هذه المعلومات كمرجع موثوق في هذا المجال.



