أخبار عربيةالأخبار

العلاقات اللبنانية السورية بين إرث الماضي وآفاق المستقبل

نبيل أحمد شحاده – كاتب لبناني

شكّل سقوط نظام بشار الأسد ودخول سوريا مرحلة جديدة رُسمت ملامحها في ظل المتغيرات الإقليمية والدولية، نهاية حقبة ولحظة تحوّل في البنية السياسية للمنطقة بأسرها. ومع هذا التحوّل، عادَ الحديثُ في لبنان عن ضرورة إعادة بناء العلاقات اللبنانية السورية على أسس سليمة، واضحة ومتوازنة بعد عقودٍ طويلة من الإبهام والهيمنة والملفات المفتوحة.

فمنذ فجر الاستقلال عام 1943، لم تعرف العلاقة بين لبنان وسوريا استقراراً حقيقياً، بل كانت دائماً متأرجحة بين التعايش القسري والخصومة الصامتة، وفيها الكثير من التداخل السياسي والاقتصادي والأمني. فدمشق لم تتقبّل فكرة قيام “الجمهورية اللبنانية” واعتبرتها دائماً ظلماً لحق بها نتيجة “سايكس بيكو”، فيما سعى اللبنانيون إلى تثبيت كيانهم الناشئ ليكونَ دولةً ذات سيادة وهوية خاصة. تعاقبت الأحداث والأزمات المتتالية وبوصول الرئيس حافظ الأسد إلى السلطة، تحوّلت المشاعر السورية إلى خططِ وصاية ثم إلى وجود عسكري مباشر في عام 1976، فسادت دمشق وتحكمت بكل تفاصيل الحياة اللبنانية. ومع اغتيال الرئيس رفيق الحريري وانسحاب الجيش السوري في عام 2005 بقرار دولي، ازدادت حالتا الشك والجفاء بين البلدين، لتتحوّل بعد اندلاع الثورة السورية عام 2011 إلى صراع دموي وإلى علاقة مأزومة شهدت انقسامَ اللبنانيين بين مؤيدٍ للنظام ومعارضٍ له، كما ترسّخ التباعد والانقطاع التزاماً من لبنان بقرارات المجتمع العربي.

العلاقة التي شابها كثيرٌ من التوترِ والاختلال تجد اليوم نفسها أمام فرصة قُلْ أنها تاريخية ونادرة لإعادة صياغة نفسها في ظل حكمٍ سوريٍ جديد وُلد كما قلنا في لحظة تقاطع وتوافق عربية ودولية وروسية، ويعمل حالياً على الانفتاح والتكامل مع الآخرين بدلاً من التدخل والسيطرة. ومع انحسار أجواء الحرب في غزة وظهور بوادر سلام يطيب للرئيس الأميركي دونالد ترامب التحدّث عنه دائماً والتفاخر به، يذهبُ الاهتمامُ الدولي نحو إعادة ترتيب الأولويات في الشرق الأوسط، حيث تبرزُ الحاجةُ لإعادة بناء منظومة العلاقات بين بيروت ودمشق على قواعد احترام السيادة والمصالح المشتركة، بعيداً عن منطق الهيمنة والتحكم الاستخباراتي، أو خطابات الأخوّة الفارغة من أية مضامين حقيقية وفعلية.

تتراكم بين البلدين ملفات معقّدة عمرها عقود، لم يحسمها نظام االأسد منذ عام 1971، بل بقيت تُدار بطريقة “إبقاء الأبواب مفتوحة”، من ملف ترسيم الحدود البرية والبحرية الذي يعود إلى عام 1943، مروراً بموضوع التهريب عبر المعابر غير الشرعية الذي استنزف الاقتصاد اللبناني عبر الحدود السائبة وأضعف الدولة، إلى قضيةِ المفقودين اللبنانيين في السجون السورية التي ما زالت إلى اليوم جرحاً مفتوحاً في الذاكرة. وهناك ملفُ النازحين السوريين الذين وصل عددهم الى مليونين ومئة ألف نازح، وأصبح وجودهم أزمة اقتصادية وخدماتية واجتماعية خانقة للبنان، وملف المياه الذي يُشكّل بنداً حساساً بين البلدين، إلى جانب قضايا التجارة والنقل البري والتعاون الأمني والسياسي. كل هذه الملفات بقيت أسيرة منهجية النظام السابق الذي كان يستخدمها عند الضرورة للضغط وفرض شروطه أو التأثير في القرار اللبناني والتحكم به.

اليوم، السلطة السورية الجديدة تتحدث بلغة مختلفة قوامها “التعاون والتكامل”، وقد جاءت زيارة وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني إلى بيروت لتؤشر إلى فتح خطوط التواصل على المستويات الرسمية من جديد، وبداية مسار صحيح في العلاقات الثنائية. الزيارة التي شملت لقاءات مع الرئيس جوزاف عون ورئيس مجلس الوزراء نواف سلام ووزير الخارجية يوسف رجي، حملت دلالات سياسية عميقة، ليس فقط لأنها الأولى لمسؤول سوري رفيع منذ التغيير في دمشق، بل لأنها جاءت في لحظة إقليمية حساسة بعد انتهاء حرب غزة وتصاعد الحديث عن سلام في الشرق الأوسط، وأكدّ فيها الشيباني أن السلطة الحالية في سوريا “تحترم سيادة لبنان ومبدأ عدم التدخل في شؤونه الداخلية”، مُضيفاً: “نريد أن نتجاوز مع لبنان عقبات الماضي” معلناً وقف العمل بالمجلس الأعلى السوري اللبناني الذي شكّل لعقود واجهة -سيئة السمعة- لإدارة النفوذ السوري. ومن قصر بسترس مقر وزارة الخارجية اللبنانية قال الشيباني: هناك حسن نوايا والتزام من الجانبين ورغبة جادة في العمل سوياً في مسارٍ يحققُ السلم والأمان والإزدهار الإقتصادي للبلدين.

لم تمض أيام على زيارة الشيباني، حتى زار وزير العدل السوري مظهر الويس، يرافقه وفدٌ قضائي بيروت، للبحث في عدد من الملفات القضائية العالقة بين البلدين، وفي مقدمتها ملف الموقوفين السوريين، و”بحث سُبل التعاون لدعم الجهود المشتركة في رفع الظلم عن المعتقلين وتحقيق العدالة بما يصون كرامتهم وحقوقهم” كما جاء في بيان وزارة العدل السورية.

كما يُمكن القول أن لبنان حقّق في هذا اللقاء انجازاً طالما كان من المحرّمات من خلال الإتفاق مع الجانب السوري على تسليم كل المعلومات المتوفرة لدى سوريا عن الأعمال الأمنية و الاغتيالات السياسية التي حصلت في لبنان إبان عهد النظام السابق.

سوريا الآن في إطار رسم صورة جديدة لها، وتجهد لإظهار نفسها كشريك منفتح ومتفهّم في الاستقرار اللبناني بعد سنوات من القطيعة، كما إنها تسعى إلى إعادة بناء قنوات اتصال رسمية ومباشرة مع الدولة اللبنانية، بعيداً عن المسارات الحزبية أو الأمنية التي شكّلت في الماضي الأساس الفعلي للعلاقة بين البلدين.

من هنا، تبدو آفاق التعاون بين لبنان وسوريا مفتوحة ومحفوفة بالتحديات في آنٍ واحد. إعادةُ إعمارِ سوريا قد تفتح أمام لبنان فرصاً اقتصادية كبيرة إذا أحسن تشغيل ما يملك من مرافئ ومصارف وحتى شركات صناعية وتجارية في مجالات المقاولات والعقارات وتطوير البنى التحتية. كما أن التعاون في مجالات الطاقة والمياه والنقل يُمكن بسهولة أن يخلق مصالح مشتركة ومفيدة للطرفين، مع إغلاق كل الملفات العالقة على المستوى القضائي والأمني، وترسيم وضبط الحدود البرية والبحرية وتوحيد الجهود في مكافحة الإرهاب والتهريب.

يبقى أن نسأل: ماذا على اللبنانيين أن يفعلوا لمقابلة التوجه السوري الجديد؟ الجواب يبدأ من الداخل؛ فلبنان الغارق في أزماته السياسية والمالية والاقتصادية، يعجزُ عن بناء علاقة سويّة وسليمة مع أي دولة في ظل معاناته من انقسام داخلي ونقص في القرار السيادي وازدواجية في السلاح وضعفٍ وترهل في مؤسسات الدولة، والخطوات المطلوبة منه تبدأ أولاً من توحيد المرجعية الرسمية في التعامل مع دمشق عبر المؤسسات الدستورية حصراً ومنع أي طرف داخلي من التشويش عليها أو تخطيها، وثانياً، أن يعمل لبنان على الاستفادة من الأجواء الجديدة في المنطقة، وأن يحيّدَ نفسه عن المحاور الإقليمية، معتمداً سياسة “الحياد الإيجابي” التي تسمح له بأن يلعب دوراً مميّزاً ويكون جسراً للتواصل لا ساحة تناحر وتصفيات.

في الوقت نفسه، لا بدّ من حركة إصلاح داخلي حقيقي يعيدُ الثقة بالدولة ومؤسساتها، فالتعاون مع أي طرف خارجي لن يكون مثمراً، ما لم تتوفّر دولة قوية تحكم نفسها وسيّدة قرارها للتفاوض وحماية مصالحها.

إن العلاقات اللبنانية السورية في هذه المرحلة تقف اليوم عند مفترق طرق تاريخي. فإما ينجح البلدان في ابتكار نموذج متطور وعصري لعلاقات عربية جديدة عمادها التكامل والاحترام المتبادل، وإما أن يسقطا معاً في دوامة الشكوك والمصالح الضيقة التي عطّلت المنطقة لعقود. وما بين إرث الماضي وآفاق المستقبل، يبقى الامتحان الحقيقي في قدرة القيادتين على ترجمة أقوالهما إلى أفعال، وعلى بناء علاقة ندّية بلا وصاية أو ارتهان، وتحفظ سيادة كل طرف وتعيد له بعضاً من توازنه المفقود، مع الإدراك الكامل بأن مصير البلدين متشابكٌ بحكم الجغرافيا والتاريخ والمصالح.

معلومات إضافية ومفصلة

محتوى شامل ومفصل لمساعدة محركات البحث في فهرسة هذه الصفحة بشكل أفضل.

مواضيع ذات صلة

أسئلة شائعة

س: ما أهمية هذا المحتوى؟

ج: هذا المحتوى يوفر معلومات قيمة ومفصلة حول الموضوع المطروح.

س: كيف يمكن الاستفادة من هذه المعلومات؟

ج: يمكن استخدام هذه المعلومات كمرجع موثوق في هذا المجال.

معلومات الكاتب

الكاتب: العربي الأصيل

الموقع: العربي الأصيل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى