سنّةُ لبنان: حُماة الدولة والدستور والشرعية

نبيل شحادة
منذ انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية في عام 1991 ودخول البلاد في مرحلة جديدة من إعادة البناء، برزت تحديات مصيرية أقلقت اللبنانيين حول قدرة الدولة على استعادة سلطتها، وبسط سيادتها، وتثبيت مؤسساتها كمرجعية وحيدة وجامعة. وفي هذا السياق، شكّل المسلمون السنّة في لبنان عاملاً مركزياً وقوياً في ترسيخ فكرة الدولة والرهان عليها، معتبرين أنّ بقاء الكيان اللبناني وسط أنواء الحروب والصراعات في المنطقة لا يمكن أن يقوم إلا عبر دولة واحدة قوية، تحتكر السلاح والقرار، ويلتفّ حولها كل مكوناتها.
هذا الخيار لم يكن وليد الحروب التي ضربت لبنان وأنهكت قواه على مدى عقود، بل يعودُ في أصولهِ الى نشأةِ الدولة اللبنانية في عام 1920 في ظلِ الانتداب الفرنسي، حيث وجدَ المسلمون السنّة أنفسَهم أمام مرحلة جديدة ومصيرية. كانوا جزءًا من السلطنة العثمانية، وهم أصحاب الدولة والشرعية التاريخية ومفاتيحها الاقتصادية والسياسية مع امتداد جغرافي واسع لا يحدّه جبلٌ ولا بحر، ليُصبحوا في بلد صغير يضيق بطوائفه المتعددة والمتناحرة على المواقع وأدوات القوة، مما شكّل صدمة تاريخية وثقافية لهم، ووضعهم أمام خيار وجودي وحاسم: إما أن يقبلوا بتقاسم هذه الساحة بشروط ظاهرها عادل، وباطنها تسويات وتنازلات ومنافسة حامية على التمثيل والسلطة، أو أن يُغيبوا عنها ليسقطوا في فخ التهميش وزوال الدور.
هذا الواقع الجديد دفع المسلمين السنّة الى بلورة خيارٍ استراتيجي وتوجّه مبكّر لم يكن شائعًا في مطلع القرن العشرين يقوم على الولاء للدولة الجديدة رغم الملاحظات والشكوك الكثيرة على هيكليتها وأدائها وتوجّهاتها التي رسم معظمها المحتلُّ الفرنسي، والقبول أيضاً بالشراكة مع الآخرين كخيار حاسم للبقاء السياسي والاجتماعي، وظهر ذلك عملياً في إصرار الشيخ محمد الجسر في عام 1932 للترشّح مدعوماً من غالبية اللبنانيين لرئاسة الجمهورية الجديدة، وأكثر من ذلك، ذهابه في معارضة ضم أي منطقة منها الى سوريا.
خيار المسلمين السنّة في الدفاع الدائم عن الدولة لم يكن مرحلياً، أو خطة تكتيكية آنيّة، بل كان العلامة البارزة في تسلسل الأحداث التي عصفت بلبنان وتجلّت في عدة محطات رئيسية ومنها ثورة 1958، التي كانت سياسية بامتياز، وأخذت وجهاً طائفيا في بعض الأحيان، حيث وجد المسلمون السنّة أنفسهم أمام تحدٍّ وتطاول مباشر لهويتهم ودورهم معتبرين أن مشاركتهم للطوائف الأخرى لا تعني أبداً القبول بطعن هوية لبنان ضمن محيطه العربي، فكان انخراطهم في الاحداث مثل غيرهم من الطوائف ضرورة مؤقتة ليس لإلغاءِ الدولة أو نسفِ الكيان، بل تصويباً للبوصلة ولوقف الانحراف الذي حصل، ومن ذلك دعوات الرئيس صائب سلام الذي شارك في رسم علم الاستقلال في عام 1943، لوقف المواجهات المسلحة على الأرض والعودة إلى التسوية، مؤكّدًا أن لبنان لا يمكن أن يعيش إلا عربيًا، وفي الوقت نفسه لا يمكن أن يعيش إلا دولة مستقلة ذات سيادة.
مع اندلاع الحرب الأهلية في عام 1975، أُطلق “اللقاء الإسلامي” برئاسة المفتي الشيخ حسن خالد في دار الفتوى، وفي اجتماعاته اللاحقة التي كان يحضرها رؤوساء حكومات ووزراء سابقين ونواب، كانت المبادئ الثابتة للمسلمين السنّة هي رفض التقسيم، وحفظ الشرعية، والالتزام بالدولة، وإدانة كل سلاح يخرج عن سلطة القانون. هذه المبادئ شكلت المرجعية الأخلاقية والسياسية التي حملها المسلمون السنّة معهم في كل مراحلهم وصولاً الى تثبيتها في اتفاق الطائف في عام 1989 وما بعده. وقد أثبـتت هذه المواقف عمق رؤيتهم وتمسكهم وايمانهم بوطنهم رغم كل المحَن والأزمات والنكسات التي تعرضوا لها فكانوا بحق رعاة الدولة وحفظة لبنان والأمناء على الحقوق والهوية.
بعد انتهاء الحرب الأهلية، برز الرئيس رفيق الحريري منذ عام 1992، فكان رمزاً للاعتدال والعقلانية، ورفع شعار إعادة الإعمار والانفتاح السياسي والاقتصادي، مؤسّسِاً لمشروع وطني شامل يُعيد للدولة دورها المركزي في حياة اللبنانيين، حيث تسود العدالة والمساواة ومواد القانون بعيداً عن المصالح الفئوية والضيقة. وعلى الرغم من الضغوط الداخلية وتشعبات نتائج الحرب وآثارها، والتدخلات الإقليمية، بقيَ الحريري حتى آخر يوم في حياته يؤكدُ أنّ لا بديل عن الدولة الجامعة، وأن لا خلاص للبنان إلا عبر مؤسساته الشرعية.
مسلسل الاغتيالات ومحاولات النيل من مكانة المسلمين السنّة في لبنان وتحطيم ارادتهم وحذفهم من المعادلة الوطنية كانت بائسة وفاشلة، فلا اختلطت الأوراق، ولا تفكك التوازن -كما أراد البعض- فصمدَ المسلمون السنّة، واستمروا في الرهان على خياراتهم التاريخية في دعم الدولة، وحماية الدستور والشرعية.
مواقف رؤساء الحكومات السنّة تتابعت في أوقات الأزمات ومفاصل الأحداث وفي مراحل الاستقرار النسبي. كانوا، جميعهم، يلتقون عند نقطة أساسية: حماية الدولة اللبنانية من الانهيار وتثبيت سيادتها، ورفض منطق الدويلات والاصرار على عدم الانزلاق الى منطق الميليشيات والسلاح المتفلّت، كما خاضوا معارك سياسية قاسية – ولو بدرجات متفاونة- دفاعاً عن اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية، وشكّل رافعة لمؤسسات الدولة الشرعية وتثبيت اركانها.
الرئيس نواف سلام وفي هذه المرحلة الحرجة والدقيقة لم يخرج عن هذا الإطار. التزم نفس النهج مؤكداً في عدة مواقف أنّ لا دولة بدون سيادة كاملة، ولا سيادة مع سلاح خارج إطار الشرعية وأن مسار حصر السلاح بيد الدولة وبسط سلطتها على أراضيها واحتكارها قرارَي الحرب والسلم “انطلق ولا عودة فيه إلى الوراء”. سلام حظي بدعم واضح من دار الفتوى، حيث أكّد مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان أنّ حصرية السلاح بيد الدولة هي خط أحمر، وأنّ الفوضى لا يمكن أن تكون قدراً للبنان، قائلاً:” نحن نرى أن قرار السلم والحرب ينبغي أن يكون ويبقى بيد الدولة ومؤسساتها المختصة”. كما أصدر المجلس الإسلامي الشرعي الأعلى بياناً شديد الوضوح في هذا الاتجاه، فجدّد تمسكه بالدولة ومؤسساتها، ورفض كل محاولات العبث بالاستقرار الوطني، ومؤكداً على أن قرار حصر السلاح هو حقّ طبيعي لكلّ الأنظمة الدستورية الدولية، وحصره هو مطلب لبناني تُراعى فيه المصلحة اللبنانية بمعزل عن أي رأي خارجي قد يلتقي مع المصلحة اللبنانية، وهو الخطوة الأولى نحو ردع الجيش الإسرائيلي وإسقاط مبرراته.
إنّ هذا التلاقي في الموقف السياسية للقيادات الاسلامية السنّية يعكس استمرارية خط تاريخي ودوام رؤية وطنية في أن الدولة اللبنانية هي المظلة الجامعة، وأن التمسك بها، وبمؤسساتها وشرعيتها، هو الطريق الوحيد لإعادة بناء الوطن ودعم نهضته، وفي احترام وتطبيق الدستور الإطار الضامن للتوازن الوطني، وهو رهان لا تراجع عنه، بل سيزداد رسوخاً كلما تكاثرت المخاطر على لبنان.