أخبار عالميةالأخبار

انتصار أجوف لطهران في الشرق الأوسط.. ولن تهزمها أمريكا بل وحدة العرب

نشر موقع دورية “فورين أفيرز” مقالا سيكون ضمن عددها لآذار/مارس، نيسان/أبريل كتبه الباحث كريم ساجدبور، المحلل في شؤون السياسة بوقفية كارنيغي حول الثمن الذي دفعته الجمهورية الإسلامية لتحقيق هيمنتها الإقليمية. وتحت عنوان “نصر إيران الأجوف” قال إن هناك عددا قليلا من الدول التي ظلت متناسقة في طموحاتها خلال العقود الأربعة الماضية مثل الجمهورية الإسلامية الإيرانية.

 

فمنذ عام 1979 عندما نقلت الثورة الإسلامية الدولة من ملكية موالية للولايات المتحدة إلى جمهورية دينية معادية وبحماس لأمريكا، حاولت إيران طرد الولايات المتحدة من الشرق الأوسط واستبدال إسرائيل بفلسطين وإعادة تشكيل المنطقة على صورتها. وعلى خلاف الإستراتيجية الأمريكية تجاه إيران وبقية الشرق الأوسط والتي تغيرت بشكل ملاحظ من إدارة إلى أخرى، ظلت الإستراتيجية الإيرانية تجاه الولايات المتحدة وبقية الشرق الأوسط واحدة ولم تتغير. ولم تحقق إيران أيا من طموحاتها الواسعة ولكها حققت تقدما وتشعر بالجرأة من النجاحات التي حققتها في الفترة الماضية. واستطاعت إيران على مدى العقدين الماضيين التسيد على العراق وسوريا ولبنان واليمن، وهي دول فاشلة أو في طريقها إلى الفشل أو ما يطلق عليه المسؤولون الإيرانيون محور المقاومة.

 

واستطاعت وبنجاح تنشئة الميليشيات الإقليمية مثل حزب الله في لبنان والحوثيين في اليمن واستغلت الفراغ الذي تركه الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 والربيع العربي في 2011 ولم يكن لدى الولايات المتحدة أو منافسي طهران الإقليميين القدرة أو الإرادة لتحدي تأثير الإيرانيين في هذه البلدان.

 

وفاقمت إيران عددا لا يحصى من التحديات الأمنية الأخرى، بما في ذلك انتشار الأسلحة النووية والحرب الإلكترونية والإرهاب وأمن الطاقة والنزاع في أفغانستان والعراق، وسوريا، والنزاع بين الإسرائيليين والفلسطينيين. ورغم تعرض طهران وواشنطن لتهديدات مشتركة منذ عام 1979 بما فيها الاتحاد السوفييتي والعراق في ظل صدام والقاعدة وطالبان وتنظيم الدولة الإسلامية، إلا أن محاولات الولايات المتحدة إقناع إيران تغيير مسارها أو الضغط عليها فشلت وبشكل مستمر. وأثبتت الجمهورية الإسلامية أنها صلبة ومصممة جدا وصعبة على الكسر.

 

لكن إيران مثل لاعب كمال أجسام قوي العضلات من الخارج يخفي داخله مشاكل مرضية مستعصية على الحل. ووصف المؤرخ جون لويس غاديس الاستراتيجية الكبيرة بأنها التي “تجمع الطموحات غير المحدودة بالقدرات المحدودة”. ولهذا استثمرت إيران الكثير من قدراتها المحدودة في طموحاتها لإعادة قلب النظام العالمي الذي تقوده أمريكا، وربما أكثر من أي بلد آخر، مثل الصين وروسيا. وبعملها هذا فقد تجاهلت شعبها وجعلتهم أكثر فقرا وأقل أمنا. وأكثر من هذا فالفجوة ما بين القدرات المتوفرة للجمهورية الإسلامية تعني أنها ستواصل استنزاف قدراتها الوطنية من أجل استقرار الميليشيات التي رعتها بالمنطقة والصراعات الخارجية، وبطريقة أدت لتعميق الإحباط الاقتصادي والسياسي والاجتماعي مما دفعها إلى ممارسة القمع.

 

الأيديولوجيا أولا

 

وبرغم خيبة الأمل التي جلبتها الثورة الإسلامية إلا أنها لم تضعف مع تقدم العمر. فآية الله خامنئي، 82 عاما، هو واحد من الزعماء الأطول قيادة في العالم والمستبدين الدوغمائيين. ومنذ توليه منصب المرشد الروحي عام 1989، هزم وبمهارة أربعة رؤساء إيرانيين وقمع بوحشية عدة انتفاضات شعبية ووسع القوة الإيرانية في أنحاء الشرق الأوسط وصمد أمام محاولات ستة رؤساء أمريكيين لتهميشه، التعامل معه أو الضغط عليه. ولم يقابل أي رئيس أمريكي ومنع الدبلوماسيين الإيرانيين من مقابلة نظرائهم الأمريكيين في المحادثات المستمرة لإعادة إحياء الملف النووي أو عدم إحيائه. واختار بعناية المتشددين أو “المبدئيين” بناء على ولائهم للثورة من أجل إدارة مؤسسات الثورة القوية.

 

وكان ولاء خامنئي للثورة هو جزء من محاولاته الحفاظ على نفسه. ومثل بقية الديكتاتوريات تواجه الجمهورية الإسلامية معضلة الإصلاح: عليها الانفتاح والتكيف من أجل البقاء، لكن عمل هذا سيدمرها. وبالمقارنة مع ثوريين إيرانيين براغماتيين، مثل أكبر هاشمي رفسنجاني وحسن روحاني الذين فضلوا نموذج الانفتاح الاقتصادي الصيني والتقارب مع الغرب، فقد استنتج خامنئي ومنذ وقت طويل أن التخلي عن مبادئ الثورة مثل معارضة أمريكا وإسرائيل هو بمثابة حمل المطرقة وضرب أعمدة البناء. وكان انهيار الاتحاد السوفييتي الذي يعتقد خامنئي أن ميخائيل غورباتشوف سرعه من خلال البروستريكا، دافعا له للاعتقاد بتحذير أليكسي دو توكفيل وهو أن اللحظة الأخطر للحكومة السيئة تبدأ عندما تحاول إصلاح أساليبها.

 

ومع أن إنهاء الحرب الباردة التي مضى عليها أربعة عقود قد يخدم مصالحهما، إلا أن واشنطن لن تكون قادرة على التوصل إلى تعايش سلمي مع نظام إيراني تقوم هويته على معارضة الولايات المتحدة والتي يزعم قائدها أن تلطيف المعارضة لها سيكلفه منصبه وسلطته. ولا توجد هناك حلول سريعة سواء كانت على شكل التواصل الأمريكي الأكبر أو الضغط الذي يمكن أن يغير طبيعة العلاقات الأمريكية- الإيرانية أو طبيعة النظام الإيراني. ولهذا السبب يجب على الولايات المتحدة التعامل مع إيران كتعاملها مع أي نظام عدو: التواصل لتجنب النزاع والتعاون عندما يقتضي الأمر والمواجهة عندما تستدعي الضرورة والاحتواء مع شركائها.

 

الظلم التاريخي لتبرير القمع

 

ومثل بقية الدول التي عاشت لحظات انتصار وذل، فإيران واثقة من نفسها وغير آمنة للغاية. وربما كانت الإمبراطورية الفارسية القديمة أول قوة عظمى في العالم لكن إيران ظلت على مدى القرون اللاحقة نهبا للقوى الخارجية التي اغتصبت أراضيها وانتهكت سيادتها. وسيطرت روسيا الإمبريالية ما بين 1813- 1828 على مساحات واسعة من الأراضي في القوقاز من إيران التي كانت تحت حكم عائلة القاجار. وفي عام 1946 حاول الاتحاد السوفييتي وبالقوة ضم إقليم أذربيجان في شمال- غرب إيران. وتم طردهم بسبب جهود الرئيس الأمريكي هاري ترومان.

 

وبعد سبعة أعوام قامت الولايات المتحدة وبريطانيا بتنظيم انقلاب عام 1953 وأطاحتا بحكومة رئيس الوزراء محمد مصدق. وبناء على هذا التاريخ، بات الإيرانيون يعتقدون، بعيدا عن مواقفهم السياسية أن القوى العظمى تريد منع البلاد من الازدهار والاستقلال. واستغلت الجمهورية الإسلامية هذا التاريخ لتبرير القمع الداخلي والطموح الخارجي، وتم تشويه منظمات العمل المدني وناشطي حقوق الإنسان والصحافيين ووصمهم بالعمالة للغرب واعتقلوا ومورس عليهم العنف.

 

وتدافع إيران عن طموحاتها النووية ودعمها للميليشيات في الخارج الذي يعتبر تدخلا في سيادة جيرانها العرب باعتباره حقا غير قابل للنقاش وشكلا من أشكال المقاومة ضد الإمبريالية الأجنبية. ومنذ إنشاء النظام الإسلامي في طهران فقد قدم الأيديولوجية على حساب رفاه وازدهار الشعب الإيراني. ولهذا قام وبشكل روتيني باتخاذ قرارات تركت تداعياتها على المصالح القومية. من ذلك، إطالة الحرب المدمرة في الثمانينات مع العراق من أجل توطيد سلطته في الداخل. وفي الفترة الأخيرة منع استقبال اللقاحات من الولايات المتحدة وسط انتشار واسع لكوفيد-19. وبعد مقتل عشرات الآلاف رفع النظام الحظر وبسرية.

 

العداء كسياسة خارجية

 

ولا يوجد بلد في الشرق الأوسط يملك مثلما تملك إيران من رأسمال بشري ومساحة جغرافية واسعة وتاريخ قديم ومصادر طبيعية. وبدلا من استخدام هذه المنح لبناء اقتصاد عالمي أو الدفاع عن مصالحها الوطنية، أقامت الجمهورية الإسلامية سياستها الخارجية على عمادين مزدوجين إسرائيل والولايات المتحدة وباستخدام 3 أيديولوجيات متميزة: مقاومة الإمبريالية والطائفية الشيعية والقومية الإيرانية، وقامت بتنشئة حلفاء لها في الشرق الأوسط وخارجه واستخدمتهم كجماعات وكيلة ضد أعدائها.

 

ورؤية طهران عن الشرق الأوسط تؤكد على عدم الحضور الأمريكي والاستفتاء الشعبي الرافض لوجود إسرائيل وجعل الدولة الدينية الخمينية نموذجا لكسب عقول وقلوب العرب والمسلمين. وهذه الرؤية لم تتحقق بعد. فرغم سحب قواتها من أفغانستان والعراق لا تزال الولايات المتحدة تحتفظ بما بين 45.000- 65.000 جندي في منطقة الخليج الفارسي. أما إسرائيل فهي دولة تكنولوجية عالمية وأصبحت مندمجة مع العالم العربي أكثر من أي وقت مضى، وبخاصة بعد تطبيعها العلاقات مع الإمارات والبحرين والمغرب. والنموذج الذي يريده معظم العرب ليبرالية اجتماعية واندماج عالمي مثل الإمارات وليس إيران الخمينية.

 

ومع ذلك فإيران تقترب من تحقيق رؤيتها أكثر من عقد مضى، ففي ذلك الوقت كان لدى الولايات المتحدة حوالي 200.000 جندي في أفغانستان والعراق ولكن العدد أصبح الآن 2.500. وفي الوقت نفسه، بدأت دول عربية بالتطبيع مع بشار الأسد الذي كان محاصرا مرة في سوريا والذي نجا بسبب دعم الإيرانيين له. ولديها حزب الله في لبنان والميليشيات الشيعية المختلفة في العراق وجماعة الحوثيين في اليمن، وهي مستعدة للقيام بهجمات مضادة ضد منافسيها.

 

انتهاز الفرص

 

ويرى الكاتب أن نجاح إيران في الشرق الأوسط كان نابعا من الانتهازية والفرص التي فتحتها لها الحرب الأهلية في لبنان وغزو العراق والربيع العربي، حيث استخدمت حلفاءها من الميليشيات لملء الفراغ. وبعبارة أخرى فقصة الشرق الأوسط الحديث هي عن ضعف العرب وليس قوة إيران.

 

ومنحت الفوضى العربية فرصة للطموحات الإيرانية وفاقمت طموحات طهران. وكانت جوهرة التاج في الطموحات الإيرانية هو حزب الله الذي ظهر عام 1982 أثناء الاجتياح الإسرائيلي للبنان وقدم الحزب النموذج الذي ستطبقه طهران مع وكلائها العرب الآخرين: القيام بهجمات قاتلة ضد القوات الأمريكية في الشرق الأوسط لتغيير الرأي العام الأمريكي وإضعاف الإرادة الأمريكية، مثل هجوم بيروت عام 1983 الذي أدى لمقتل 241 من الجنود الأمريكيين.

 

واحتفلت إيران وحزب الله بالهجوم لكنهما أنكرتا المسؤولية. وبعد أربعة أشهر أمر رونالد ريغان بسحب القوات الأمريكية من لبنان. وأصبح اليوم من أقوى الجماعات في لبنان، يغتال منافسيه بدون خوف ويدير اقتصاده الخاص ويقال إن لديه أكثر من 100.000 صاروخ موجه ضد إسرائيل ولم يعد يتظاهر بعدم الاعتماد على إيران. وقال الأمين العام للحزب، حسن نصر الله “نحن منفتحون بشأن ميزانية حزب الله ودخله ومصاريفه وكل ما نأكل ونشرب وأسلحته وصواريخه من الجمهورية الإسلامية الإيرانية” و”طالما كان مع إيران أموال فسيكون لدينا مال. ومثلما نتلقى صواريخ لاستخدامها ضد إسرائيل فإننا نحصل على المال”. وتبنت نفس النموذج في العراق حيث استخدمت الميليشيات التابعة لها قنابل بدائية قتل بها أكثر من ألف جندي أمريكي. وكانت تخشى من خلق أمريكا ديمقراطية في العراق تهددها. ولهذا عملت على إحباط مشروعها.

 

كما أخبر قيس الخزعلي أحد قادة الميليشيات المحققين الأمريكيين بأن أمريكا تنفق المليارات على الحرب وإيران الملايين. ولكن الميليشيات الشيعية هي القوة الأضخم ومافيا مفترسة تثري نفسها وتحمي المصالح الإيرانية في البلد. ولعبت إيران وميليشياتها دورا في حماية الأسد. وما بدأ كتعاون في الثمانينات ضد العراق تحول لشراكة بات فيها كل طرف يعتمد على الآخر، فالأسد يريد المال الإيراني وإيران تريد سوريا كجسر لنقل السلاح إلى حزب الله ورأس حربة ضد إسرائيل. ورغم محاولة الدول العربية دفع الأسد للتخلي عن شركائه الإيرانيين إلا أنه لم يفعل.

 

ورغم المظهر الديني الأخلاقي إلا أن الجماعات الموالية لإيران تحولت في بحثها عن المال للتجارة بالممنوعات. واليوم يعتبر التعامل بمادة كابتغون المصدر الرئيسي للدخل في سوريا، ويتاجر حزب الله بموافقة إيرانية بمادة أمفيتامين. وإيران التي تعدم أبناءها لتعاطيهم وتجارتهم بالمخدرات تحولت إلى زعيم فعلي لأكبر شبكة تهريب مخدرات في العالم. وفي الفترة الأخيرة، أضافت إيران اليمن إلى قائمة التأثير، وبخاصة بعد سيطرة الحوثيين على صنعاء عام 2014. وقدمت لهم السلاح وأشكال الدعم الأخرى التي قيل إنها مولت من واردات التجارة غير الشرعية. وتحول اليمن لصراع غير مكلف لطهران وباهظ الكلفة للسعودية التي أنفقت حوالي 100 مليار دولار على الحملة في اليمن ولطخت سمعتها وحملت مسؤولية الثمن الإنساني الباهظ هناك.

 

وتعكس أيديولوجية الحوثيين غير المتسامحة وشعاراتها الاستفزازية: “الموت لأمريكا الموت لإسرائيل اللعنة على اليهود والنصر للإسلام” أيديولوجية رعاتها في إيران. وحاول الحوثيون ضرب السعوديين بنفس الطريقة التي ضربت فيها حماس وحزب الله إسرائيل. وباعتبارها الدولة الثيوقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، فقد تعلمت إيران كيفية تسخير الراديكالية السنية والشيعية على حد سواء وأحسن من نظيراتها.

 

ومن بين أسباب نجاحها أن الميليشيات الشيعية كانت مستعدة للقتال من أجلها فيما حاولت الجماعات السنية المتشددة ومنها القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية تقويض الحكومات العربية. مع أن تحالفات إيران مع الراديكالية السنية ليست دينية كما هو واضح بدعمها لحماس وحركة الجهاد الإسلامي. ولم تتردد الجمهورية الإسلامية بالتعاون مع الأصولية السنية بما فيها القاعدة وطالبان طالما اشتركتا معها في هدف العداء لأمريكا. وكما قال خامنئي عام 2021 نحن مستعدون لدعم ومساعدة أي دولة أو جماعة في أي مكان تعارض وتقاتل النظام الصهيوني ولا نتردد بقول هذا.

 

تغير السياسة

 

وما بدأ كثورة ضد فساد وقمع محمد رضا شاه بهلوي تحول إلى فيلق أجنبي إسلامي تمدد عميقا في قمعه السياسي الأوسع: اغتيالات واختطاف رهائن وفساد اقتصادي وتهريب مخدرات. ورغم نجاحها في إنشاء ميليشيات تابعة لها في الشرق الأوسط إلا أن هناك إشارات ملموسة عن تجاوز طهران طاقتها. فثلثا الشباب العرب يرون فيها عدوا وهناك نسبة النصف تريد خروج الإيرانيين من بلادهم والتوقف عن التدخل في النزاعات الداخلية. ونسبة كبيرة من الشيعة العرب لديهم مواقف غير محببة من إيران. وهاجم المتظاهرون العراقيون قنصليات إيران في النجف وكربلاء، كما وتظاهر شيعة لبنان ضد حزب الله في النبطية. وكان الخوف المتبادل من إيران سببا في اتفاقيات التطبيع التي وصفها خامنئي بالخيانة للعالم الإسلامي. ولا يزال يدعم مأساة الفلسطينيين باعتبارها قضيتهم الأهم.

 

وأدى دعمه للجماعات الوكيلة له في الأراضي المحتلة لخلق محور البؤس الممتد من سوريا إلى اليمن ولبنان، كما أظهر استطلاع لغالوب. ورغم سياسات إيران الإقليمية إلا أن أمريكا لن ترد عليها، مقارنة مع الجماعات المتشددة مثل القاعدة التي ضربت أمريكا مباشرة. فقادة إيران يسيطرون على مقدرات دولة قطرية وسيخسرون الكثير لو استهدفوا أمريكا مباشرة. وبدلا من ذلك فهم يعتمدون على الميليشيات التابعة لهم لضرب مصالح أمريكا، محتفظين بمسافة، كما أن قادة إيران يريدون التأثير بدون تحمل مسؤولية الحكم. ولا يتم اتخاذ قرار في العراق ولبنان بدون مباركة من الميليشيات الشيعية لكنها لا تريد تحمل مسؤولية انتشار البطالة وغياب الخدمات، فلدى هذه القوة أما المحاسبة فهي للحكومة.

 

وأثرت مغامرات إيران الخارجية على اقتصاد البلاد ما دفع المواطنين للتظاهر ومساءلة دعم الحكومة الخارجي. وسمع في التظاهرات شعارات مثل “انس سوريا وفكر بنا” و”كذبوا عن كراهيتنا لأمريكا”. ولأن نهاية النظام مرتبطة بشرطين، الضغط من الأسفل والتفكك من الأعلى، فالنظام يبدو متماسكا من الأعلى والضغط مستمر من الأسفل، بخلاف أن الجماهير منقسمة وبدون قيادة. وفي الوقت الذي عانت فيه طهران من آثار العقوبات والحصار إلا أن هذا ليس دافعا لها لكي تتخلى عن جماعاتها في الشرق الأوسط.

 

ويعتقد أن الجواب نابع من استراتيجية أمريكا التي عانت من فراق أربعة عقود ونرجسية اعتقد فيها صناع السياسة الأمريكية أنهم قادرون على حل المسألة الإيرانية بالتواصل معها وتعديلها أو قتل روح الثورة من خلال الضغط عليها. وهناك تقدميون أمريكيون يرون أن معاداة إيران لأمريكا هي نتاج لسياسات واشنطن، أما المحافظون فيرون أن الضغط الكبير سيجبر قادة طهران على الاختيار بين الأيديولوجية أو النجاة. لكن خامنئي يرى في أيديولوجية الثورة كنهاية في حد ذاتها ووسيلة لحماية النظام. وكما قيل عن روسيا، فقد استفادت إيران من غياب الأمن لتحقيق أمنها، واستخدمت الطائفية والانقسامات الدينية لتأكيد تأثيرها في الدول الضعيفة وكذا الخلافات بين القوى العظمى.

 

فالجمهورية الإسلامية ليست لديها علاقات تجارية مع أمريكا، وكل تجارتها مع دول أخرى مما يعني أن أي سياسة احتواء تحتاج من أمريكا لبناء إجماع دولي. والخطوة الأولى لتحقيق هذا هو بناء إجماع وطني بين الديمقراطيين والجمهوريين بشأن إيران، حيث اختلف الحزبان في موضوع الاتفاقية النووية لعام 2015. ومع خلاف الجمهوريين حول التعامل مع إيران والعودة للاتفاقية النووية إلا أن ناخبيهم لا يريدون حربا أخرى في الشرق الأوسط. وفي المقابل فالديمقراطيون وإن عبروا عن رغبة للتعامل مع إيران والعودة إلى الاتفاقية النووية إلا أن استطلاعات الرأي التي أجراها مركز بيو تظهر أن 70% من داعميهم عبروا عن مواقف “غير جيدة” من إيران.

 

وبعبارة أخرى هناك أرضية مشتركة بين الحزبين لبناء إجماع حول إيران، وعدم المبالغة بخطورتها على أمريكا وعدم التقليل في الوقت نفسه من تهديدها للمصالح الأمريكية. وعلى الجانب الآخر من الأطلنطي فأمريكا بحاجة لحوار مع حلفائها، وحتى الآن فشل هذا الحوار ببناء أرضية مشتركة حول إيران التي استغلت الخلافات وهددت بمفاقمة أزمة اللاجئين واختطاف الرهائن الأوروبيين. ونتيجة لهذا لا تزال المواقف الأوروبية سلبية من إيران كما في أمريكا.

 

وطالما ظلت إيران تعتقد أن أوروبا معها كما حدث بعد خروج ترامب من الاتفاقية النووية عام 2018 فلن تعبر عن رغبة بالتنازل. وتحتاج أمريكا للتعامل مع الصين التي تنظر بطريقة مختلفة إلى إيران، ولكنها تشترك مع واشنطن في قلقها من البرنامج النووي الإيراني ورغبتها بتجنب النزاع حتى لا يؤثر هذا على استقرار الشرق الأوسط وتوقف تدفق النفط الذي تعتمد عليه. كما وتحتاج أمريكا لتقوية حلفائها في المنطقة. وتقوم إيران باستخدام ضعف وتشرذم هذه الدولة لممارسة التأثير عليها. وكما كانت القومية العربية عاملا في مواجهة الشيوعية والإمبريالية الغربية فهناك حاجة لإعادة هذا الشعور والسيادة والوحدة الضرورية لمواجهة إيران. وكان الخلاف الخليجي بين السعودية والإمارات والبحرين من جهة وقطر ما بين 2017- 2021 عائقا أمام دول مجلس التعاون الخليجي لبناء رؤية واحدة بشأن البرنامج النووي الإيراني.

 

ورغم تباين المواقف الأمريكية والأوروبية والصينية من إيران إلا أنها تتفق على عدم اندلاع حرب معها أو حصولها على القنبلة النووية. وتبدو القوة الإيرانية في الشرق الأوسط متصاعدة، لكنها حالة مؤقتة، فالعرب الذين لم يرضوا بحكم الأتراك والاستعمار الأوروبي لن يرضوا بحكم الإيرانيين. وحتى المتعاطفون من العرب معها لديهم شكوكهم، فنوري المالكي الذي عاش في إيران أخبر السفير الأمريكي في العراق “لا تعرف الوضع السيئ إلا إذا كنت عربيا أجبر على العيش مع الفرس”.

 

وتقوم استراتيجية إيران الكبرى بحرق شمعة المصادر الإيرانية وتصدر نفس العنف السياسي والتعصب الاجتماعي والبؤس الاقتصادي والذي عانى منه الإيرانيون إلى الخارج. وقد تظل إيران ملكا بين الأنقاض لسنوات أو عقود قادمة. وهناك قوى قليلة لديها الرغبة أو القدرة لتحدي التفوق الإيراني في العراق وسوريا ولبنان واليمن، وبعد عقدين في العراق وأفغانستان فلن تعود أمريكا مرة أخرى إلى المنطقة.

 

وتواصل إيران التي تشبه ناطحة سحاب بقاعدة متعفنة تخيم بظلها على الشرق الأوسط على الرغم من عدم استقراره في المنظور القريب. وسينهار البناء بنفسه أو عبر احتواء أمريكي يعمل على ولادة حكومة تعمل لصالح الإيرانيين بدلا من أيديولوجية العداء. وفي النهاية ستهزم الجمهورية الإسلامية واستراتيجيتها الكبرى ولكن ليس على يد الولايات المتحدة ولكن الشعب الإيراني الذي دفع الثمن الباهظ لها.

زر الذهاب إلى الأعلى