لبنان ـ فيديو الميلاد بطرابلس وامتحان الهوية الوطنية

نبيل أحمد شحاده – كاتب لبناني
أثار انتشار فيديو لطالبات في مدرسة خاصة بطرابلس، يرفضن فيه الاحتفال بعيد الميلاد عاصفة من الجدل الديني والاجتماعي في لبنان. تسجيل مُصوّر التُقط في ملعب المدرسة، سُرعان ما خرج من إطاره التربوي الضيّق، ليتحول وبسرعة إلى قضية رأي عام، وأشعل نقاشات واسعة حول التعليم، والدين، والهوية، وحرية التعبير، وحتى إلى حد الترويج للتقسيم كضرورة ودواء شاف، ولا حل لأزمات لبنان إلّا به، قبل أن يأخذ القضاء مساره بشكل رسمي، فيحقق مع مصوّر الفيديو ثم يُطلق سراحه بعد اتضاح نواياه السلمية.
غير أن ما أعطى المشهدَ حجماً كبيراً، لم يكن مضمون الفيديو وحده، بل كيفية تلقّيه من قبل اللبنانيين من مختلف المناطق والطوائف. ففي ساعات قليلة، انقسمت مواقع التواصل الاجتماعي إلى شبه معسكرات مختلفة؛ فريق رأى فيه تشدّداً وإقصاءً لفكرة العيش المشترك. وفريقٌ آخرٌ اعتبرَ أن ردود الفعل تنطوي على استعلاء ثقافي واعتداء على خصوصيات وعقائد دينية، وفريق ثالث، استغل الفرصة، وبدا العزف على أوتار الإرهاب وربطه بتداعيات النظام السوري الجديد وما إلى ذلك. انهارت لغة النقاش إلى مستويات غير مسبوقة من التخاطب السيء، وامتلأ الفضاء “الانترنتي” اللبناني بالشتائم والتحقير والتخوين، وفجّر كل مخزونات التوتّر والعقد النفسية ومشاعر الخوف الكامنة لدى الجميع.
ما حصل لم يكن استثناءً، بل بات نمطاً متكرراً يحكم الحياة اللبنانية العامة. خبرٌ صغير، أو مقطع فيديو، أو جملة مقتطعة من سياقها، تتحول إلى أزمة مصغّرة على مساحة الوطن، تتجاهل الاختلافات العقائدية والاجتماعية “الطبيعية” لهذا المجتمع المتنوّع، وتُعيدُ إلى سطح المياه الراكدة “صدام هويات” داخل كيان هشّ لم يكتمل نموه منذ نشأته في عام 1920.
من هنا، لا يبقى الجدل ضمن اطاره الديني أو التربوي فحسب، بل يُصبح مدخلاً كاشفاً لحالة أعمق وأخطر: مجتمعٌ لا يتفق على شيء تقريباً، ولا يمتلك الحد الأدنى من المساحات المشتركة التي تضبط خلافاته أو تمنعها من الانفجار عند أقل احتكاك، وهذا يسمحُ لنا بالانتقال مباشرة إلى سؤال يُلاحقُ لبنان منذ قيامه: هل نجح الشعب اللبناني في التحوّل إلى شعبٍ واحد بالمعنى السياسي والتاريخي؟ أم أن الكيان الذي استقل في عام 1943، بقي شكلياً وفولكلورياً، وتحت لواء علمه طوائف وجماعات ومصالح لم تنجح يوماً في الانصهار داخل إطار وطني جامع!
هذا السؤال ليس تشكيكاً بلبنان كوطن، وليس جلداً للذات، بل هو محاولة ضرورية لفهم هذا التعثّر المُزمن في الدولة اللبنانية، حيث شهدنا منذ عقود طويلة، انفضاضاً تدريجياً للمجموعات “اللبنانية” وهي تُسقطُ من معاييرها مرجعية الدولة وحتى وجود الآخر، وتكرّس التنافر الطائفي بأوضح صوره. لم يعد الانقسام سياسيًا فقط، بل اجتماعيًا وثقافيًا. بنت كل طائفة منظومتها التعليمية، ومؤسساتها الصحية، وجمعياتها الاجتماعية، ووسائل إعلامها، ورموزها وشهداءها وسرديتها الخاصة للتاريخ. نشأت ذاكرات متناقضة داخل حدود الوطن الواحد، وغاب أي تصور مشترك لمعنى الدولة أو المصلحة العامة.
الخلافات الحادة داخل الوطن الواحد، ليست نتيجة أحداث عابرة ولا تضارب في وجهات النظر. كما أن التناحر بين الطوائف والتهافت على المكاسب وتحقيق المصالح الضيّقة، كان دائماً نتاج مشكلة أساسية وجودية نشأت مع تأسيس دولة لبنان، وظهور الصراع الكبير حول تعريف الدولة “الضبابية” وهويتها، ومَنْ يُمسك بقرارها، ويؤثر بقوة في كينونتها، حتى تطوّرت الأمور، وأصبح التعامل مع الدولة كلها على أنها “غنيمة سياسية” لا مشروع وطن، وباتت الهوية الوطنية عنوانٌ فضفاض لا يصمدُ أمام أي اختبار مهما كان صغيرا أو تافهاً.
ولا يتجلّى هذا الفراغ في الهوية الوطنية فقط في السياسة أو في المواقف الكبرى، بل يظهرُ بوضوح في اللغة المستخدمة في التراشق. اللبنانيون لا يختلفون على الأحداث وتفاصيلها فقط، بل على الكلمات والمفاهيم؛ معنى الدولة، ومعنى الحرية، ومعنى الخصوصية الدينية، من العجيب أيضاً أنهم يختلفون على معنى الوطن ذاته. وهذا ما يجعل الحوار مستحيلاً، وتغيب اللغة المشتركة فوراً ويتحوّل النقاش إلى صدام، ويُصبحُ الاختلافُ تهديدا، والرأي الآخر إهانة، والحادثة العابرة التي يُمكن تخطيها بوعي وحصافة، تكبرُ إلى مواجهة وجودية لا تتقبل العقل، ولا تسمح بالتهدئة.
الواقع الراهن، يؤكد عند كل مفترق، خلاصةً قاسية وهي أن المجتمع اللبناني لم يصل بعد إلى المرحلة الأولى في بناء شخصية وطنية جامعة. المواطنة لا تزال مفهوماً هشّاً ومحيّراً. والانتماء الوطني غالباً ما يبقى شعاراً خطابياً، ومادة إعلامية في المناسبات والأعياد.
اللبنانيون ما زالوا في المحطة الأولى يتصارعون على الرصيف قبل الصعود إلى قطار مساره طويل وشاق لبناء الذات الوطنية كما فعلت بقية الشعوب، التي قدّمت المصلحة العامة على الحسابات الفئوية، فربحت بلادها وحاضرها ومستقبلها.
وما يعاني منه اللبنانيون، اليوم، خطير وصعب ومؤلم في نفس الوقت، وهو غياب الشخصيات السياسية التي تملك حكمة ووعياً ورؤى وطنية تتخطى الطوائف وترى المستقبل للبنان. شخصيات قادرة على زرع الأمل وتوحيد مكوّنات المجتمع وتحفيزها على إعادة النظر في مساراتها ونظرتها للآخر “المخيف”، وتصحيح خياراتها “المشوّشة” بدل الاستثمار الدائم في الخوف والانقسام.
بغير هذه التوجهات، سيبقى لبنان فكرة جميلة في حفرة جحيم، وليس وطناً يشعر فيه جميع أبناؤه بالأمان والاستقرار.
معلومات إضافية ومفصلة
محتوى شامل ومفصل لمساعدة محركات البحث في فهرسة هذه الصفحة بشكل أفضل.
مواضيع ذات صلة
- مقتل قائد بارز بالجيش الروسي في تفجير سيارة مفخخة
- مصل داء الكلب يفشل في علاج شاب عراقي وتُوفي بعد 40 يوما
- لماذا يواصل الأثرياء الخروج من بريطانيا؟
- لماذا تتجه تركيا لحظر إعلانات المراهنات؟
- قلق إسرائيلي من التحركات العسكرية التركية في المنطقة
أسئلة شائعة
س: ما أهمية هذا المحتوى؟
ج: هذا المحتوى يوفر معلومات قيمة ومفصلة حول الموضوع المطروح.
س: كيف يمكن الاستفادة من هذه المعلومات؟
ج: يمكن استخدام هذه المعلومات كمرجع موثوق في هذا المجال.



