أخبار عربيةالأخبار

قراءة في سلوك الدولة اللبنانية… تخبّط وارتجال وهدر للفرص

نبيل أحمد شحاده – كاتب لبناني

توقيع اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وقبرص رغم الاعتراض عليها من قبل بعض الخبراء الذين انتقدوا الدولة وتسرّعها في عملية الترسيم، وتجاهلها وثائق ومعطيات تمنح لبنان حصة بحرية أكبر، أعادت إلى الأذهان نمطاً ثابتاً في طريقة تعاطي السلطة مع الملفات الكبرى. ومع أن الخطوة روّج لها البعض باعتبارها انجازاً يفتح الباب أم فرص اقتصادية مستقبلية، إلّا أنها جاءت لتؤكد من جديد أن هذه الدولة وفي المواقف المصيرية تتصرف دائماً بضبابية ودون شفافية وخارج أي منظور استراتيجي يُقدّر ويراعي حجم المصالح الوطنية.

وسلسلة الحروب والأزمات التي مرّ بها لبنان منذ عام 1975، كانت كفيلة – لو كنا جمهورية طبيعية- أن تؤسس لوعي جديد لدى أهل السلطة، أو على الأقل تدفع لحدٍ أدنى من الجدية في المراجعة والنقد كي لا تتكرّر الأخطاء المميتة. وما حصل الآن في الاتفاق مع قبرص، حصل ما يشابهه في الترسيم البحري مع اسرائيل.

وهذه التطورات لا تقف عند حدود الأخطاء التقنية أو التفاصيل التفاوضية، بل تكشف عن خلل أعمق في بنية اتخاذ القرار: دولة تتحرك بلا بوصلة وطنية واضحة، وبلا رؤية استراتيجية تُدير الملفات الكبرى وفق مصلحة لبنان العليا، وهي تتعامل مع الاستحقاقات المصيرية بمنطق ردّ الفعل والارتجال، وبالتسويات الظرفية، وبانعدام التخطيط الذي يجعل كل فرصة تضيع، وكل أزمة تتكرر بثمن أكبر.

لم تُنتج الأزمات طبقةً سياسية أكثر حكمة وأكثر مسؤولية، بل هو السلوك الفاضح يُعيد انتاج نفسه؛ فتتحرك الدولة دون بوصلة، وتتخذ القرارات الكبرى دون أي إطار استراتيجي. ارتجال في اتخاذ القرارات، وتمسك بطريقة الادارة اليومية، وتناقض في المقاربات، وغياب التخطيط، وطبعاً تقديم الأولويات الشخصية والطائفية والتسويات الضيقة على اي مصلحة وطنية، وتجاهل كبير لحجم المأزق الذي يعيشه لبنان وشعبه، وبسبب كل ذلك، يبقى مساحة مكشوفة، وعاجزاً عن تثبيت خياراته، وغير قادر على اقتناص الفرص ولا التقاطعات الدولية لا في بناء شراكات مثمرة ولا تحالفات مستقرة، وظهر التخبط في جولات الرئيس جوزاف عون التي شملت الامارات والسعودية والجزائر وهنغاريا والاردن والعراق وقبرص. رحلات بدت بحسب مراقبين وكأنها جولات بروتوكولية وإعلامية أكثر من خطوات لتعزيز مواقف لبنان ودعمه وبناء علاقات واعدة.

ولا يمكن تجاهل الفرصة التي أهدرها لبنان بعد لقاء الرئيس جوزاف عون بالأمير محمد بن سلمان، حيث توفّر في ذلك اليوم مناخٌ جدّي وواعد لفتح صفحة تعاون اقتصادي ودعم خليجي مشترك، في لحظة كانت تشهد تنسيقاً واضحاً بين الرياض وواشنطن. ورغم المؤشرات الإيجابية والوعود الأولية بإطلاق مشاريع إنمائية واستثمارات مباشرة، عجزت الدولة عن التقاط اللحظة، بسبب تشتّت القرار الداخلي وانعدام الرؤية، لتنتهي المبادرة قبل أن تتبلور، وتضيع معها واحدة من أهم فرص الاستقرار والنهوض التي كان يمكن أن تغيّر مسار الانهيار.

ومظاهر التخبط والفوضى في الأداء السلطوي اللبناني كثيرة ويصعب حصرها، ومن أمثلتها الحالية، كيفية التعامل مع ملف نزع سلاح حزب الله الذي يُدار ببطء شديد يُراكم الشكوك بدل الثقة، ويُقدّم أعذارا متنوّعة فسّرها العميد الركن المتقاعد يعرب صخر بأنها نتيجة اتفاقات غير معلنة لم ينفها القصر الجمهوري وتدل على وجود شيء ما هدفه شراء الوقت والالتفاف على القرارات الدولية.

وفي قضية هنيبعل القذافي تكرّر المشهد بصورة أخرى؛ إذ بدا هذا الملف مثالاً صارخاً على قدرة السلطة على تسييس القضاء وإخضاعه لاعتبارات لا علاقة لها بمفهوم العدالة أو استقلاليتها. فبعد احتجازه نحو عشر سنوات بشكل تعسفي كما وصفته منظمات حقوقية، انتهى الملف إلى تسوية هزيلة و”تنزيلات في الأسعار” رسّخت الانطباع بأن العدالة في لبنان غير موجودة، ويتم التلاعب بها دون وازع أو ضمير.

ويبرز ذات الخلل البنيوي وتناول الملفات حسب الضرورة الآنية أيضاً في ملف نوح زعيتر. إذ عكست عملية توقيف “اسطورة المخدرات” بعد سنوات من التفلت والحماية السياسية نموذجاً آخر لكيفية إدارة السلطة للملفات الأمنية. عملية التوقيف وصفها الكاتب السياسي علي الأمين بأنه تعويض عن “الصفعة بإلغاء زيارة قائد الجيش إلى واشنطن، وهي للتعويض عن خلل ما، له علاقة بالخيبة الأميركية من سلوك الجيش والأجهزة الأمنية”. الخطوة لاقت ترحيباً واسعاً في الداخل وفي دول الخليج، لكنها طرحت أسئلة مؤلمة عن سبب التأخر إلى عقود قبل أن تتعامل الدولة بجدية مع واحدة من أهم وأكبر شبكات المخدرات في المنطقة وعالمياً.

ملف الترسيم البحري، هو أيضاً مؤشر مخزٍ لغياب المسؤولية والرؤية الاستراتيجية، فالاتفاق الموقّع مع اسرائيل في 27/10/2022، وهلّل له بعض أقطاب السلطة على أنه إنجاز وانتصار للبنان، كشف لاحقاً عن تنازلات مهينة وخسائر اقتصادية هائلة. ثم جاء الاتفاق الآن مع قبرص بعد عقدين من التأجيل والمماطلة ليُشكّل بحسب المختصين خسارة تُقدر بين 2700 كيلومتر مربع و 5000 كيلومتر مربع، إضافة إلى تسرّع وتسوية ظرفية في التوقيع، وتجاهل لمصالح سوريا وتركيا التي كانت واضحة في رفضها الاتفاق معتبرة إياه “ينتهك حقوق القبارصة الأتراك” ولا يمكن قبوله.

ولا يتوقف الأمر هنا، فالوضع الإقتصادي ما زال على حاله متعثراً، فيما تواصل السلطة عملها وكأن الأمر مجرد أزمة عابرة. تعاميم تُقسّط أموال المودعين بطريقة مشينة، وتغيب خطة التعافي الحقيقية والتشريعات اللازمة، والسلطة وفيها مَن كان سبباً للأزمة، لا تمتلك الشجاعة الكافية للاعتراف بحجم الكارثة، أو في اتخاذ قرارات صلبة وجذرية.

وعلى أبواب السنة الجديدة، واقتراب المواعيد الرسمية للانتخابات النيابية، يستمر تعطيل التعديل المطلوب للقانون ومنح المغتربين تمثيلهم الحقيقي رغم دورهم الاقتصادي الكبير بهدف إعادة انتاج نفس المنظومة – ولو بأسماء مختلفة- وإغلاق الباب أمام تمثيل فعلي لمكوّنات الشعب والمغتربين منهم، وهذا ما يُعمّق فقدان الثقة في أي تغيير حقيقي، ويؤكد أن النظام السياسي الحالي حصّن نفسه ضد التطوير والتحديث.

إن استمرار السلطة اللبنانية في هذا النهج يُعمّق فقدان لبنان لدوره التاريخي كمركز خدمات، وبوصفه نقطة توازن وعبور شرق أوسطية، وبقدرته على جذب الاستثمارات والمساعدات والاهتمام الدولي. ومع تعمّق أزمة الثقة الداخلية وتراجع الشرعية الشعبية، يصبح لبنان أكثر هشاشة أمام الضغوط، وأقل قدرة على حماية مصالحه في ملفات كبرى تتعلق بحدوده وثرواته وسيادته.

معلومات إضافية ومفصلة

محتوى شامل ومفصل لمساعدة محركات البحث في فهرسة هذه الصفحة بشكل أفضل.

مواضيع ذات صلة

أسئلة شائعة

س: ما أهمية هذا المحتوى؟

ج: هذا المحتوى يوفر معلومات قيمة ومفصلة حول الموضوع المطروح.

س: كيف يمكن الاستفادة من هذه المعلومات؟

ج: يمكن استخدام هذه المعلومات كمرجع موثوق في هذا المجال.

معلومات الكاتب

الكاتب: العربي الأصيل

الموقع: العربي الأصيل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى