جوزاف عون بين ثوابت خطاب القسم وأوهام حلف الأقليات

نبيل شحاده – كاتب لبناني
ما نفّذه حزب الله في منطقة الروشة في بيروت لم يكن حادثة عابرة، بل عكس واقع الدولة اللبنانية المتهالكة، وعوّم الى السطح حجم الأزمة التي يعانيها عهد الرئيس جوزاف عون وهو الذي وعد اللبنانيين في خطاب قسمه بالاستناد إلى حكم القانون فقط، والى أن بناء الوطن سيكون تحت سقف القانون والقضاء حيث لا صيف ولا شتاء على سطحٍ واحد بعد الآن، ليظهرَ لاحقاً أن الأمورَ تذهبُ في اتجاهٍ لا يتوافقُ مع بنود الخطاب.
تحدّى حزب الله الدولةَ وسيادتها والقانون وهيبته، وتجاهلَ مزاج أهالي بيروت وغالبية اللبنانيين وأضاءَ صور قادتهِ على صخرةِ الروشة في قلب العاصمة وليس في وجه العدو الإسرائيلي، ليُعلن في مشهد ميداني أن السلاح والقرار ليسا حكراً على الدولة، بل بيدِ الحزب الذي يُمكنهُ رغم الهزائم التي مُنيَ بها في ارض المعركة على فرض حضوره وهيمنته على اللبنانيين ودولتهم المذعورة.
رئيس مجلس الوزراء نواف سلام التقط سريعاً حجم التحدي وتداعياته على الداخل وانعكاساته على الجهود المبذولة لإعادة لبنان الى مصاف الدول “الحقيقية”، فدان الحادثة بوضوح وشفافية وحزم، وأكدَّ أن لا دولة بلا سيادة، ولا سيادة بلا حصرية للسلاح. لكن المفاجأة المدهشة كانت على الضفة الأخرى وبين أروقة قصر بعبدا، حيث بدا رئيس الجمهورية جوزاف عون متردّداً وصامتاً أكثر من التزامه بموقف صارم. لم يُظهر دعماً علنياً وقوياً لموقف الرئيس نواف سلام، وحتى لم يرفضْ سيل الشتائم والإهانات التي كالها مَنْ يدورون في فلك الحزب من اعلاميين وصحفيين، وكأنّه اختار أن يتصرّف كمختار بلدة “عين الوردة”، وهي بالمناسبة بلدة وادعة خيالية ووهمية في ثنايا جبال لبنان، بدلاً من زعيم وطني وقائد مسؤول عن مسار الدولة وخياراتها في أخطر مراحلها.
في خطاب قسمه، أعلن جوزاف عون ان حماية الدستور، وتعزيز سيادة الدولة، وحصرية السلاح بيد المؤسسات الشرعية، وهو خطابٌ فاجأ الجميع بوضوحه، وأثار في حينه آمالاً واسعة داخلياً وخارجياً، بأن تكون رئاسة الجمهورية ملمّة بالمتغيرات في المنطقة، وأن تتبوأ مقعدها كمرجعٍ صلبٍ في مواجهة تغوّل السلاح غير الشرعي وحالة الفوضى التي تنهش في جسد الوطن. لكن مرور الزمن كشف أن الممارسة السياسية للرئيس جوزاف عون لم تتطابق مع وعوده. حادثة الروشة شكّلت حلقةً من حلقات التناقض بين الالتزام الخطابي والتنفيذ الواقعي، وفي لحظة احتاجت فيها الدولة إلى الصلابة والتماسك، وإعادة الاعتبار للدستور والمؤسسات، فضّل الرئيس الانكفاء أو فلنقل الاكتفاء بمواقف ضبابية وملتبسة تدفع بنا إلى التساؤل: هل يعودُ ذلك إلى ضعف شخصي في تولّي زمام الأمور؟، أم إلى خيار سياسي واعٍ وعميق يقوم على حسابات تاريخية ترتبط بنظرية قديمة تتجدّد باستمرار تحت شعار حلف الأقليات؟
لفهم ما يجري، لا بد من العودة إلى جذور فكرة “حلف الأقليات”. هذا المصطلح الذي ارتبط تاريخياً بالنخب المسيحية، وخصوصاً داخل الأوساط المارونية، التي كانت – وما زالت- تنظر بقلق دائم إلى الغالبية الإسلامية السنيّة في المشرق، وكان هاجسها هو كيفيةُ الحفاظِ على النفوذ السياسي في ظل محيط إقليمي سنّي له امتدادته في جهات الأرض الأربع فتجعل منه قوة جادة يُحسب لها حساب، وكان الحل بنظر البعض هو تشكيل تحالفات على مستوى المؤسسات -حزبية واعلامية ومالية أيضاً – مع الأقليات الأخرى المتناثرة في المنطقة مثل العلويين والدروز والشيعة وغيرهم.
هذا المنطق ترسّخ أكثر في الحقبة السورية، حين شكّل نظام آل الأسد (العلوي) في دمشق برأي البعض مظلة أمان وحماية ضمنية للموارنة في لبنان، فيما كان التحالف مع حزب الله لاحقاً امتداداً لذات الفكرة التي تقوم على مواجهة “الخطر السني” المُنبعث من ثنايا التاريخ والجغرافيا، حيث تخشى بعض الأوساط المارونية “المتحجرة” أن تفتح المرحلة الجديدة الباب أمام صعود جديد للنفوذ السني في المنطقة، مدعوماً من دول اقليمية مثل السعودية وتركيا وتحت رعاية أمريكية في إطار مشروع “الشرق الأوسط الجديد”. من هذا المنظار، يُفَسَّرُ البعض تردّد الرئيس جوزاف عون في مواجهة “حزب الله” بأنه ليس مجرد صمت مرحلي وتكتيكي، بل هو نتاج خيار استراتيجي مرتبط بالخوف من انهيار كامل لحلف الأقليات وانكشاف المسيحيين وخاصة الموارنة أمام “المارد السنّي” الذي أحسنَ ادارته بشكل عام للمنطقة عبر التاريخ ، وعاشت هذه الأقليات تحت ظلاله إلى اليوم.
رئيس الجمهورية، وفق الدستور وخطاب القسم، مؤتمنٌ على حمايةِ سيادةِ الدولة ووحدتها. وهو، لا غيره، يجب أن يكون أول المدافعين عن منطقِ الشرعية والدولة أمام منطق الميليشيا والفوضى، وهو لا غيره أيضاً، لا يمكنه الانكفاء، ويجب أن لا تتقدمَ هواجسُه الطائفية على التزاماته الوطنية.
الرئيس هنا يقف على مفترق طرقٍ؛ فإما أن يكون رئيس دولة لجميع اللبنانيين يهتمُ لمصالحهم ومستقبلهم، أو أن يتحوّل إلى رهينة “نظرية الخوف” التي حكمت أجيالاً من السياسيين، ويأخذُ بنا جميعاً الى هاوية ونتيجة خطيرة. الانكفاء الرئاسي يُضعفُ موقفَ الحكومة ورئيسها، ويُشجع الميليشيا خارج الدولة على التمادي والتطاول على السيادة والدستور، ويفتحُ البابَ أمام انهيار العقد الاجتماعي اللبناني الذي يقوم على توازن دقيق وحسّاس بين جميع المكونات ضمن دولةٍ قوية لا دويلة متسلطة.
والمفارقة الثانية، هي أن رئيس مجلس الوزراء نواف سلام أظهر ثباتاً واضحاً في اللحظة ذاتها، وكان صدىً لغالبية اللبنانيين، وأدركَ أن لبنان لا يمكن أن ينهضَ، أو يكتسب ثقةَ المجتمعِ الدولي إن لم يكرّسْ سيادتَه الكاملة. وسلام يعرفُ، بحكم خلفيته الأكاديمية والعلمية والدبلوماسية، أن أي تسوية مستقبلية في المنطقة ستقوم فقط على الدول القوية، لا على دول ممزقة لا سلطة فيها ولا قانون. لذلك اختار الوضوح والشفافية والرهان على مشروع الدولة الحديثة القادرة وتحت شعار ومفهوم: لا استقرار بلا حصرية السلاح، ولا دولة بلا قانون.
المنطقة تعيشُ تحولاتٍ عميقة، وهناك عوامل تعيدُ رسمَ التوازنات، والتردّد من أي جهة كانت هو خطأ استراتيجي، والخوف غير المُبرّر من “مارد سنّي” ليس سوى وهم متجدد وطريق مسدود يعيد إنتاج الانقسامات الطائفية ويؤجل بناء الدولة، بل يُعيدها إلى عزلة أعمق وإنقسام أخطر. الدولة لا تقومُ على تحالف مكوّنات خائفة ومتوجّسة من آخرٍ ما، بل على دولة جامعة تساوي بين مواطنيها وتستمد شرعيتها من الدستور والقانون.
الرئيس جوزاف عون، وكي لا يصبحُ شاهدَ زور على انهيار الدولة، عليه أن يستعيد زمام المبادرة، ويترجمَ خطابَ القسم إلى أفعال، لا أن يظل أسير مخاوف، وهو مُطالب أيضاً بالتنسيق الكامل مع رئيس مجلس الوزراء والحكومة ومؤسسات الدولة لإعادة الإعتبار لهيبة الدولة وإظهار جبهةٍ رسمية موحّدة في مواجهةِ السلاحِ غير الشرعي وعبثية تحركاته ومغامراته ومقامرته بمستقبل لبنان.
معلومات إضافية ومفصلة
محتوى شامل ومفصل لمساعدة محركات البحث في فهرسة هذه الصفحة بشكل أفضل.
مواضيع ذات صلة
- نحو استقلال الصناعات الدفاعية.. تركيا تدخل عصر صناعة المحركات
- منظمة حقوقية تحذر: القمع في الجزائر يهدد بانفجار اجتماعي
- مقاوم يقتحم موقعا للاحتلال وإصابة خطيرة لضابط
- مخاوف شعبية من تفشي داء الكلب بالجزائر
- قتيلان ومصابون باحتجاجات المغرب
أسئلة شائعة
س: ما أهمية هذا المحتوى؟
ج: هذا المحتوى يوفر معلومات قيمة ومفصلة حول الموضوع المطروح.
س: كيف يمكن الاستفادة من هذه المعلومات؟
ج: يمكن استخدام هذه المعلومات كمرجع موثوق في هذا المجال.