دروس للبنان من سوريا الجديدة

نبيل شحادة
تعيش سوريا منذ سقوط نظام بشار الأسد وتسلّم أحمد الشرع رئاسة البلاد مرحلة تاريخية مختلفة بكافة المعايير. فبعد أكثر من عقد من الحرب المدمّرة التي استنزفت الحجر والبشر، بدا وكأن هذا البلد سلك طريقه للخروج من نفق مظلم طويل تمهيداً للولوج في مسار جديد، يختلف في ملامحه عن كل ما يعرفه الناس عن سوريا السابقة. فالتغيير لم يكن مجرد انتقال شكلي للسلطة، بل حمل معه حيوية داخلية واضحة، وانفتاحاً خارجياً انعكسا مباشرة في العلاقات السياسية وبناء الثقة مع المجتمع الدولي، وإطلاق مشاريع إعادة الإعمار والتنمية، وإعادة صياغة موقع سوريا في الخارطة العالمية.
قرأت دمشق جيداً اللحظة الدولية؛ فبعد سنوات من الحصار والعزلة والعقوبات، أدركت القيادة الجديدة الأولويات وعرفت كيفية ترتيبها، ورأت أن المدخل إلى استعادتها لعافيتها لا يمرُ فقط بالسيطرةِ الأمنية والعسكرية والعمل على اعادة هيكلة السلطة، بل بتوفير بيئة استثمارية وحاضنة سياسية تعيد الثقة إلى الداخل، وتستقطب الدعم من الخارج، حيث اعتمدت نهجاً مغايراً لما كان سائداً لأكثر من خمسة عقود، فاندفعت نحو الاقتصاد الحر، وشرعت في تعديل قوانين الاستثمار، وبدأت بخصخصة مؤسسات عامة أساسية ولكنها غير منتجة، وبناء شراكات دولية وخطط تمويل مبتكرة، وظهرت بوادر فكر اقتصادي متطور عبّر عنه وزير الاقتصاد والصناعة محمد نضال الشعار الذي تحدّث في مؤتمر في دبي بأن العمل يجري لإعادة بناء البلاد بأسلوب اقتصادي أكثر استدامة، وأن مفهوم إعادة الإعمار بالطرق التقليدية لم يعد صالحا. هذا التوجهُ كان حكيماً وضرورياً في بلدٍ مدمّرٍ يحتاجُ في أقل التقديرات الى نحو خمسمئة مليار دولار أميركي لتأهيل بنيته التحتية مثل الطرق، والجسور، والمطارات، والموانئ، والمدارس والمستشفيات، اضافة إلى قطاع الإسكان الذي يحتاج إلى خطط جريئة وطموحة لإعادة بناء عشرات القرى والمدن المدمّرة بشكل شبه كامل.
في المقابل، يقف لبنان على الضفة الأخرى من المشهد، سجيناً لأزماته الداخلية التي تتوالد باستمرار، وتُصبح بفعل الإهتراء عصيّة على الحل. فمنذ انسحابِ الجيش السوري عام 2005 وما تبعه من اغتيالات وانقسامات، لم ينجحْ اللبنانيون بفعل عاملين أساسيين هما الفساد والسلاح غير الشرعي في بناء دولة منيعة وقادرة على مواجهة التحديات. بل تراكمت الأزمات حتى ساد اعتقاد بأن أيةَ حكومة لن تقدر على إزاحتها. أزمات الكهرباء والمياه المستمرة منذ أكثر من عقدين ما زالت تحاصر كل بيت لبناني وترهقه بالتكاليف الجانبية العالية، والانهيار المالي والمصرفي الذي انفجر في عام 2019 بعد سنوات من التكاذب على المواطنين، حوّل مدخرات الناس إلى ضباب ورماد، ومن بقي صامداً من المودعين يناله الآن شيئاً من ماله بإسلوب التنقيط. وكارثة مرفأ بيروت الذي دُمّر عام 2020 بفعل فاعل لم يناله ضُرّ أو مذكرة اعتقال، لم يُعَد إعمارُه حتى اليوم، وهناك مَنْ يطالب يإبقاء الخراب قائماً للذكرى أو في الحقيقة لتشويه بيروت أكثر وأكثر، فيما التحقيقات تبقى غارقة في تجاذبات وعرقلة . أما الفسادُ فصار سمةً ملازمةً وعلامةً تجارية مسجّلة للإدارة العامة والمؤسسات الحكومية، وباتت النفعية الطائفية والمحسوبيات الحزبية هي القاعدة الناظمة لكل القطاع العام.
المقارنة السريعة بين التجربة السورية الجديدة والتي لم يمض عليها شهور، وتجربة الجمود اللبناني لنحو عقدين، تُظهرُ أن الفارق في كل ما ذكرناه لا يكمن في حجم الموارد أو القدرات المادية ولا المستويات البشرية في الخبرة والكفاءة، ولا في مستوى الدعم العربي والدولي، بل هو في طبيعة القرار السياسي، ومدى وضوح الرؤية المستقبلية والمرونة العملية للادارة في البلدين. سوريا التي خرجت من حرب طاحنة امتلكت بسرعة فاجأت العالم كله، وبفضل قيادة شابة وجديدة ومنفتحة، رؤية واضحة للانطلاق نحو البناء والتنمية ووضع الدولة كلها على طريق المستقبل. أما لبنان، الذي لم يعرف حرباً شاملة بمعنى الكلمة منذ ثلاثة عقود، فهو يعاني من غياب القرار الموحد وتشتت السلطة بين قيادات سياسية متهالكة خرجت من الحاضر، ومن دولة هشة وعاجزة تكافح للبقاء في مواجهة ميليشيا طائفية تعاني هي أيضاً من الفوضى وضياع البوصلة وانعدام المشروع الوطني وتلتزم الولاء للخارج، وتحاول أن تفرض إيقاعها – الذي عفا عليه الزمن- على الداخل في ازدواجية لبنانية تجعل أي إصلاح أو مشروع بناء عرضة للتعطيل والانهيار، كما هو الحال في أمر بسيط يتعلق بخدمة الانترنت الفضائي من شركة ستارلينك.
لقد أثبتت التجربة السورية أن الإرادة السياسية اذا صدقت نوايا أصحابها، قادرةٌ على تحريك عجلةِ التاريخ، حتى ولو كان الركامُ كبيراً وهائلاً. سوريا تستقطبُ اليوم اهتمام كبريات الشركات العالمية في مجالات الطاقة والمياه والمواصلات والإعمار، والتي تُعلن أنها على استعداد للعمل والمشاركة في إعمار سوريا، وليس بدافع الشفقة أو الإحسان، بل لأن البيئة آمنة مالياً وسياسياً وعلى طريق الاستقرار ووفق منطق الاستثمار والربح. بل إن شركات وتحالفات عدة وقّعت عقودا بمبالغ ضخمة لمشاريع اقتصادية واعدة. كما إن السلطة الجديدة في دمشق تمكنت بحنكتها ووضوح خططها أن توازن بين القوى الكبرى وعواصم القرار، فلا هي ارتمت في أحضان طرف، ولا بقيت أسيرة طرف آخر كما كان الحال سابقاً. هذا التوازن الايجابي أتاح لها هامشاً واسعاً للتحرك ضمن الدائرتين العربية والدولية، وأعطاها الجرأة والشفافية للدخول في مفاوضات ضرورية كانت من المحرّمات -ظاهرياً- لحفظ أمنها واستقرارها.
أما لبنان فظل أسير الحسابات الضيقة والمصالح الشخصية، وتعثّرت فيه المشاريع الكبرى التي كان يمكن أن تغير وجهه وتدفع به الى دور اقتصادي مميّز في المنطقة، من الصناعة الى الكهرباء إلى البنى التحتية، فتعثرت جميعها، وانزلق لبنان الذي كان يوماً منارة للمنطقة، وملاذاً للاستقرار والثقافة والحرية، وجسراً بين الشرق والغرب الى خارج الخريطة الاقتصادية والاستثمارية والجيوسياسية الجديدة التي تتشكل في المنطقة.
يبقى أن نطرح سؤالاً دقيقاً يتعلق بالمستقبل: كيف ستكون العلاقة اللبنانية السورية في ضوء ما يجري في البلدين، وحجم التحولات في المنطقة؟
من الواضح أن سوريا الجديدة، التي أعادت بناء علاقاتها مع كل العالم، ستنظر إلى لبنان من زاوية مختلفة، وقد أوضح الرئيس أحمد الشرع في لقائه مع وفد اعلامي عربي له منذ أيام، الصفحة الجديدة التي يريد فتحها مع لبنان ولم يكتف بقوله: “نحتاج إلى صفحة جديدة بيضاء لتحسين العلاقات السورية اللبنانية، وأهم شيء فيها إلغاء الذاكرة السلبية الماضية”، بل ذهب الى رسم خارطة “حياتية ومصيرية” متبادلة وثنائية الاتجاه للبلدين، فقال: الأفضل هو الذهاب إلى الاستقرار الاقتصادي بما ينعكس على الحالة اللبنانية، والاستفادة من النهضة السورية التي ستصير، والتي سيخسر لبنان على المدى الطويل إذا لم يستفد منها.
الجغرافيا والتاريخ هما قدر سوريا ولبنان، وهما محكومان بالتجاور والتداخل وضرورات التعاون معاً، ومصلحة سوريا الحقيقية اليوم تكمن في قيام لبنان سيّد ومستقل ومستقر وفاعل، يكمّلها اقتصادياً ويكون لها عوناً ومنفذاً طبيعياً نحو البحر المتوسط والأسواق العالمية. وهذا يتطلب علاقة قائمة على الندية والتعاون لا على التبعية والهيمنة. وفي المقابل يحتاج لبنان إلى الخروج من عزلته القاتلة، والاستفادة من دروس التاريخ القاسية، وإعادة رسم وصياغة علاقته بسوريا بعيدا من أدران وأخطاء الماضي، وبما يحفظ سيادته وكرامته الوطنية. واللبنانيون الذين رفضوا الوصاية العسكرية والسياسية لنظام الأسد في الماضي، هم اليوم مدعوون إلى التفكير بعقلانية في كيفية الاستفادة من النهضة السورية، وأن يسعوا الى تكامل اقتصادي في مجالات الكهرباء والطاقة والتجارة وإعادة الإعمار بما يعود بالنفع والفائدة على الطرفين وقد يجعل من لبنان بوابة طبيعية وممر استراتيجي لسوريا والغرب، وهذا كله لا يمكن تحقيقه دون شرط أساسي، وهو أن يمتلك لبنان دولة قوية ذات قرار واحد، وقوة حصرية، وسلطة موحّدة وعدالة متساوية. دولة تحفظ سيادتها، وتفاوض وحدها باسم كل اللبنانيين ومع أي فريق وطرف خارجي بما يكفل ويحفظ مصالح لبنان وشعبه ودوره الرائد في المنطقة.