أخبار عربيةالأخبارلبنان

حزب الله وخيار الانتحار

نبيل شحاده

توصيف “حزب الله” بأنه فصيل مقاوم أو مكوّن لبناني مسلح، لم يعد توصيفًا دقيقًا لحقيقة ما وصل إليه هذا الحزب من بنية ونفوذ وقدرات مالية وعسكرية – على الأقل قبل اندلاع الحرب الأخيرة- ومن دور خطير في قلب الدولة اللبنانية ومؤسساتها، حتى الوصول الى الإمساك الكامل بلبنان، والتحكم بدولته والمقامرة بمصير شعبه، وتحويله كما ظهر في أحداث عدة ومواقف علنية إلى منصة لخدمة الأجندة الإيرانية، ولو على حساب شعب لبنان، ووحدته، وحقه في الاستقرار والعيش الآمن.

منذ نهاية الحرب الأهلية اللبنانية في عام 1990، كان من المفترض أن يسلك لبنان مسار الدولة الواحدة التي تحتكر وحدها قرار الحرب والسلم، وأن تندمج جميع القوى والميليشيات في النظام السياسي تحت مظلة الدستور والقانون. غير أن الواقع سار في اتجاهٍ مختلفٍ تمامًا، ودخل “حزب الله” مرحلة جديدة من التكتيك العملاني والتمويه السياسي، وتمكن بفضل النظام السوري والدعم الايراني المفتوح، من التحايل على بنود اتفاق الطائف والتفلّت من صفة الميليشيا، ليظهر بصفته “مقاومة مشروعة” ضد الاحتلال الإسرائيلي الذي كان يسيطر على أجزاء واسعة من جنوب لبنان، ما أتاح له الاحتفاظ بسلاحه وتشكيلاته العسكرية خلافًا لكل الآخرين. ومع الوقت تبيّن أنّ هذا الاستثناء لم يكن هدفه فقط مواجهة إسرائيل، بل كان يخفي مشروعاً أكبر وهو خلق قوة موازية داخل لبنان أو كما يسميها المحلّلون “دويلة”، تعمل في الظل وتتحرك بأساليب تتخطى الدستور والقوانين.

من خلال هذا السلاح، فرضَ الحزبُ نفسه تدريجيًا طرفًا سياسيًا لا يقبل المساءلة ولا المراجعة ولا حتى المحاسبة. لم يكن البرلمان ولا مقاعده هدفاً له، ولا الحكومة ووزاراتها وسيلة للمشاركة في إدارة شؤون البلاد، بل كان يسعى إلى ما هو أبعد، وهو السيطرة الكليّة على مفاصل القرار الوطني والتحكم بتوجهات الدولة وعلاقاتها وخياراتها السياسية والاقتصادية. وقد نجح في ذلك الى حدٍ كبير، مستندًا إلى شبكة أمنية وسياسية واقتصادية واجتماعية ودينية واسعة، وإلى غطاء حصري ما ورائي يملك حق النطق باسم طائفة كاملة، مع مجموعة من الشركاء الآخرين المرتهنين لسلاحه وأمواله التي كانت تصل اليه كالسيل العارم من ايران.

بعد انسحاب الجيش الاسرائيلي من جنوب لبنان في عام 2000 استناداً إلى القرار 425 الصادر عن مجلس الأمن في عام 1978، روّج حزب الله لرواية انتصار عسكري ساحق مستبقاً أي تبدلات في موازين القوى الداخلية اللبنانية أو مطالبات بإنهاء دور سلاحه، فشرع في خطة مدعومة من نظام الأسد في الحديث عن عدم استكمال التحرير، وفُتحت ملفات مزارع شبعا ومرتفعات كفرشوبا لابقاء وظيفة دائمة لسلاح الحزب في المعادلة اللبنانية.

بدأت الأصوات ترتفع رويداً منددة ببقاء “السوري” ووجود سلاح الحزب، وكان الصوت الأعلى يصدرُ من المطارنة الموارنة بقيادة البطريرك نصرالله صفير الذين طالبوا بلغة واضحة بإنهاء “الاحتلال” السوري واستعادة السيادة الوطنية الكاملة، ثم وقعت جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وانطلقت ثورة الأرز التي تمكنت ضمن ظروف سياسية دولية معقدة ومتقاطعة من حشد الضغوط، فخرج الجيش السوري في عام 2005. عندها شعر “حزب الله” بخطورة الموقف، وظهر له أن الغطاء الإقليمي الذي توفّر له عبر النظام السوري بدأ يتلاشى، وقرّر أن يعمل فوراً على الإمساك بالدولة مباشرة ودون أية قفازات ناعمة. فبدأ التوغل في المؤسسات، من الأمن إلى القضاء، ومن الجيش إلى الإعلام، وفرض معادلة جديدة لم يشهد لبنان مثلها من قبل، مفادها أن مَنْ يريد أن يحكمَ هذا البلد، عليه أن ينالَ رضا “حزب الله”، أو لا يحكم.

شكّلت حرب تموز في عام 2006، مفصلاً جديداً للحزب الذي اعتبر – دون أية أعتبار لحجم الدمار والخسائر البشرية والمادية- أنه حقق انتصاراً جديداً, وظنّ أنه أصبح لاعباً اقليمياً تأتي اليه الوفود الدولية لمناقشته في قضايا متعددة، واعتبر انه الآمر الناهي في كل ما يتعلق بشؤون لبنان. وبعد “غزوة” السابع من أيار في عام 2008، واتفاق الدوحة الذي أطاح بديمقراطية العمل السياسي وفرض مبدأ الثلث المعطّل رغم عدم دستوريته، عمل الحزب بالتعاون والتنسيق مع رئيس مجلس النواب نبيه بري على تعطيل تشكيل الحكومات لسنوات، ثم أدخل البلاد بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان في فراغ رئاسي لمدة عامين ونصف حتى تمكّن من فرض حليفه ودميته المطيعة ميشال عون رئيساً للجمهورية. ثم جرت انتخابات وفق قانون انتخابي قيل أنّه فُصّلَ على مقاس الحزب وحلفائه.

لم يعد الدستور هو المعيار في الدولة ولا مَنْ يُحدد اصول العمل السياسي، بل أصبح كلُ شي يُدار ويُحسب على موازين يرسمها حصراً “أهل السلاح”. ولم تعد المؤسسات تتبع القوانين، بل انزلقت الى أفخاخ “التوازنات” التي يفرضها الحزب أو يرضى عنها أو يسمح بحسب مصالحه بمرورها. وبهذا

المعنى، فإن النظام الديمقراطي في لبنان – على علّاته- بات فعليًا مُفرغًا من كل مضامينه: لا تداول فعلي للسلطة، ولا مساءلة ولا محاسبة، ولا فصل بين السلطات.

ثم سمح لنفسه في التدخّل في الحرب السورية بدءاً من عام 2012، وشارك بقوة في معارك دموية داخل سوريا وخاصة في مناطق حلب والقصير وحتى في العراق، وساهم فعلياً في بناء وتدريب ميليشيات شيعية تخدم المشروع التوسعي الإيراني في منطقة الشرق الأوسط، بل وأبعد من ذلك.

فتح حزب الله حدود لبنان دون أي اعتبار للسيادة اللبنانية، أو للمصلحة الوطنية أو للمخاطر التي أصبحت البلاد معرّضة لها. لم يستأذن الدولة ولا مؤسساتها، ولم يستشر مكونات الشعب، وزجّ باللبنانيين الشيعة في حروب لا تعنيهم لا من قريب ولا بعيد، وصولا الى اشعال حرب الإسناد لغزة، متجاهلاً كل التحذيرات الداخلية والعربية والدولية، وواصل تقدّمه بخطى سريعة نحو الهاوية، مستنداً الى وهم “التكليف الشرعي”، والطاعة لقيادة الولي الفقيه في ايران، وشعوره المطلق بالأمان وبعدم المحاسبة.

وصول الرئيس جوزاف عون في كانون الثاني 2025، الى سدّة الرئاسة وبصفته رمزاً لتوافقية وطنية، أعطى آمالاً جديدة، مع الحديث عالي النبرة عن سيادة الدولة وهيبتها وحصرية السلاح بيدها، إلا أن الشهور التي مرّت دفعت اللبنانيين الى هوّة الإحباط مجدداً، ولم يتمكّن عون من كبح جماح الهيمنة المفروضة بقوة السلاح، وبقيت المؤسسات مشلولة، والقضاء مقيّدًا، والقرار الوطني مصادَرًا. ويخشى الجميع أن يُصبح مثل سابقه ميشال عون في موقع المتفرّج على دولة تُختطف وتسقط أمام عينيه، وزاد الأمر سوءاً الفشل الكبير للدولة في تحقيق أي تقدم فعلي، وظهر ذلك جليّاً في نسيان الوعود ببدء عملية سحب سلاح مخيمات الفلسطينيين في بيروت في منتصف شهر تموز، دون تبرير أو عذر.

وكذلك حصل مع حكومة الرئيس نواف سلام، التي حملت معها وعودًا كبيرة بإصلاح شامل، واستعادة الثقة الدولية والعربية، ووضع البلاد على جادة الإنقاذ الاقتصادي والمالي والاصلاحات الادارية، فقد اصطدمت سريعًا بجدار الواقع السياسي والأمني المزري الذي يفرضه “حزب الله”.

لم يتحقّق أي بند من بنود خطاب القسم، ولا من البيان الوزاري، لأن القرار ليس في يد رئيس الجمهورية، ولا الحكومة ولا رئيسها. وكيف لدولة أن تُنفّذ إصلاحاتٍ بينما كل شيء خارج سيطرتها، ومُهدّدة من داخلها في أية لحظة؟ وكيف تُفاوض المؤسسات الدولية بينما قرار السلم والحرب ليس بيدها؟ وكيف تُعيد ثقة العرب والعالم بينما السلاح غير الشرعي يحكم ويُهدّد، ويخوّن كيفما شاء، ويمنع أي مساءلة أو إصلاح؟.

اليوم، حزب الله، ورغم الدعوات المتكررة اليه من الأفرقاء اللبنانيين والمجتمع الدولي للخضوع لمنطق الدولة، وتسليم سلاحه بحسب القوانين اللبنانية أولاً، والقرارات الدولية ثانياً، ما زال يعاند ويكابر ويرفض القبول، بل يذهب أكثر من ذلك فيُعلن اعادة بناء هيكليته العسكرية، ويُهدد الداخل ويلوّح بحرب أهلية رغم الهزيمة الكبيرة والخسائر العظيمة التي تعرّض لها في حربه الأخيرة مع اسرائيل غير مكترث لما قد تخلّفه مغامراته الجديدة من دمار، ودماء، وتهجير، وانهيار.

استراتيجية “حزب الله” انكشفت وأصبحت مرئية ومسموعة. هي ليست تحرير فلسطين، ولا استعادة القدس، ولا حماية لبنان، ولا مقاومة احتلال، ولا بناء دولة. إنها استراتيجية مكتملة بلا أفق، تقوم على تحقيق انتحار وطني عبر تدمير النظام السياسي. وانتحار اقتصادي عبر عزل لبنان عن محيطه وحرمانه من القروض والاستثمارات والمساعدات العربية والدولية. وانتحار أمني عبر فرض الفوضى، واستدعاء الحروب وإجبار الشعب على الخوض فيها.

مسار الحزب هذا، لن يؤدي بلبنان إلّا الى مزيد من الانهيار، لا كدولة فاشلة فحسب، بل كأرض تبخر منها الأمل، وتُستخدم كل مرة أداة رخيصة وجاهزة في صراعات الآخرين ولأجل مصالحهم.

اللبنانيون اليوم، مدعوون جميعاً الى الانخراط في مقاومة سياسية حقيقية، هي مقاومة السلاح غير الشرعي، ومقاومة مشروع تفكيك الدولة، ومقاومة منطق ايديولوجي يريد تحويل المواطن إلى شهيد بالقوة. اللبنانيون أمام مفترق طرق حاسم: فإما أن يكون السلاح بيد الدولة، أو لا دولة على الإطلاق.

نبيل شحاده كاتب صحفي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى