لماذا يعتبر 55% من الإسبان المغرب مصدر الخطر الرئيسي؟

كشف دراسة للرأي أجراها مركز التفكير الاستراتيجي ريال إلكانو مؤخرا أن 55 في المئة من الإسبان يعتبرون المغرب هو مصدر الخطر الذي يهدد استقرارهم، واختاروا هذا البلد الواقع في الحدود الجنوبية لهم رغم ما يجري في العالم من حروب وعلى رأسها الحرب الروسية-الأوكرانية والحرب الباردة الجديدة بين الغرب والصين. نتائج هذا الاستطلاع أو دراسة الرأي تبرز مدى استمرار الأحكام المسبقة في تشكيل المخيال الإسباني تجاه المغرب.
ويعتبر معهد ريال إلكانو على رأس معاهد الدراسات الاستراتيجية في إسبانيا وفي أوروبا، ويجري دراسات عميقة، وكانت الأخيرة حول تصور إسبانيا لمستقبل الدفاع الأوروبي والحلف الأطلسي ومصادر الخطر التي تهدد هذا البلد الأوروبي. وكشفت النتائج التي جرى تقديمها يوم الإثنين من الأسبوع الجاري حول الدول التي تهدد استقرار وأمن إسبانيا، وكانت النتائج على الشكل التالي: 55 في المئة من الإسبان يعتبرون المغرب الدولة التي تهدد مستقبلهم وأمنهم في الوقت الراهن. وهذا يعني أكثر من النصف. وبعد المغرب تأتي دولة روسيا بنسبة وصلت إلى 33 في المئة وتليها الولايات المتحدة بـ 19 في المئة وإسرائيل بـ 8 في المئة والصين بـ 6 في المئة.
رغم أن هذه المعطيات قد تبدو غريبة في البداية، فإنها في الواقع تنسجم مع التصورات السائدة داخل المجتمع الإسباني. والمثير للاهتمام أن قائمة الدول التي يعتبرها الإسبان مصدر تهديد تعرف بعض التغييرات، باستثناء المغرب الذي يظل باستمرار في صدارة هذه القائمة. وفي هذا السياق، من الطبيعي أن يرى 33 في المئة من الإسبان أن روسيا تمثل مصدر خطر، وذلك على خلفية الحرب مع أوكرانيا، حيث تُعتبر موسكو في نظر غالبية الأوروبيين دولة معتدية. كما تسلط الصحافة الإسبانية الضوء على مرور السفن الحربية الروسية بالقرب من المياه الإقليمية لإسبانيا، إلى جانب تحليق بعض الطائرات المقاتلة من طراز «تو-160» بالقرب من الأجواء الإسبانية. ومنذ ثلاث سنوات، تعمل دول الاتحاد الأوروبي على عقد مؤتمرات واجتماعات بهدف بناء منظومة دفاعية عسكرية موحدة لمواجهة التهديد الروسي، الأمر الذي يعزز من اعتبار روسيا خطراً مشتركاً بالنسبة لإسبانيا وباقي الدول الأوروبية.
واعتاد الإسبان اعتبار الولايات المتحدة من بين المصادر الثابتة للتهديد على أمنهم، ويُعزى ذلك إلى الرفض الواسع لسياساتها الخارجية، التي يُنظر إليها على أنها عامل توتر دائم في العالم. وازداد هذا الشعور خلال فترة رئاسة دونالد ترامب، بسبب تصريحاته ذات الطابع التصعيدي تجاه عدد من قادة العالم، بمن فيهم قادة إسبانيا. وما يثير الانتباه في هذه الدراسة هو أن الصين تحتل المرتبة الخامسة في قائمة الدول التي يُنظر إليها كمصدر خطر، متأخرة عن إسرائيل، التي ارتفع مستوى التوجس منها بسبب الحرب الجارية ضد الفلسطينيين في قطاع غزة، ويتعاطف الإسبان مع فلسطين. ورغم كثافة الحديث في الإعلام الغربي عن خطر «التنين الصيني القادم»، إلا أن هذا التهويل لم ينجح في ترسيخ فكرة أن الصين تُشكّل تهديداً مباشراً للغرب عكس ما كان سائدا مع الاتحاد السوفييتي في الماضي ونسبيا روسيا في وقتنا الراهن.
واحتل المغرب المركز الأول كمصدر للخطر بالنسبة للإسبان بنسبة 55 في المئة، وهي نسبة مرتفعة جدا، ولولا الحركات المطالبة بالاستقلال عن إسبانيا مثل بلد الباسك وكتالونيا لكان المعدل يتجاوز 75 في المئة، لأن الإسبان القوميين يعتبرون المغرب مصدر خطر، بينما ساكنة إسبانيا في أقاليم كتالونيا وبلد الباسك ونسبيا غاليسيا، حيث القومية الإقليمية مرتفعة لا ترى في المغرب مصدر خطر. والملفت أن هذه النسبة كانت 35 في المئة وارتفعت إلى 49 في المئة السنة الماضية، والآن 55 في المئة.
ودأب مسؤولو البلدين، وعلى رأسهم وزيرا الخارجية ناصر بوريطة وخوسيه مانويل ألباريس، على التأكيد بأن العلاقات المغربية-الإسبانية تعيش أزهى فتراتها، مقارنة بالمراحل السابقة التي شابها التوتر. ومنطقيّاً، يُفترض أن ينعكس هذا التحسن في العلاقات على صورة المغرب في أعين الرأي العام الإسباني. غير أن الواقع يُظهر عكس ذلك، إذ لا يزال المغرب يُنظر إليه كأحد أبرز مصادر التهديد بالنسبة للإسبان. ويعود استمرار هذا التصوّر السلبي إلى عدة عوامل متداخلة ومتنوعة، يمكن إبراز أهمها فيما يلي:
-تاريخيا، توارث ويتوارث الإسبان عبر الأجيال فكرة أن المغرب يشكّل تهديداً لأمنهم واستقرارهم. ويرتبط هذا التصور بطبيعة الدولة الإسبانية منذ نشأتها في العصر الحديث، حيث تأسست في سياق تاريخي اتّسم بالصدام مع المغرب، بدءاً بطرد الموريسكيين، ولاحقاً من خلال سلسلة من الحروب التي اندلعت بين الطرفين. وتُعدّ الحدود الجغرافية بين البلدين تجسيداً مصغّراً لصدام طويل المدى، يعكس في طياته امتداداً لصراعات ذات أبعاد دينية وعسكرية واقتصادية، تذكّر، ولو بصورة رمزية، بمراحل الحروب الصليبية.
عسكريا، منذ سنوات طويلة، يركز الإعلام الإسباني على صفقات التسلح المغربي. وهكذا، مع كل صفقة تسلح، تتناسل المقالات والتحاليل وبودكاست في إسبانيا تضخم الخطر المغربي. ومما يفاقم هذا التصور المتوجس مشاركة قادة عسكريين سابقين في إصدار كتب يتحدثون عن حرب مقبلة بين المغرب وإسبانيا. في هذا الإطار وخلال السنة الأخيرة، اتهم رئيس أركان الدفاع السابق فرناندو أليخاندري المغرب بأنه يمثل تهديدا مباشرا لإسبانيا، ويروج بأن المغرب يمارس حربا هجينة ضد مصالح إسبانيا، وهذه الأخيرة لا تدرك عمق هذا التهديد. ويشدد على أن إسبانيا يجب أن تكون مستعدة لنزاع محتمل مع المغرب، خاصة بالنظر إلى الوضع الجيوسياسي في شمال أفريقيا. في الاتجاه نفسه، يرى الأدميرال تيودورو لوبيز كالديرون أن المغرب قام بأعمال في ما يسمى بـ«المنطقة الرمادية»، والتي يمكن أن تكون جزءاً من استراتيجية هجينة لتغيير الوضع القائم بدون مواجهة مباشرة بما في ذلك إسبانيا. العامل السياسي، يعتبر المغرب من مواضيع المواجهة بين اليسار واليمين في المشهد السياسي سواء الحكومة أو البرلمان وحتى الحكومات المحلية والبلديات. وكل اتفاقية سياسية مع المغرب تخلف جدلا كبيرا، ومن ضمن الأمثلة أن قرار رئيس الحكومة بيدرو سانشيز بتأييد الحكم الذاتي في نزاع الصحراء خلال اذار/مارس 2022 ما زال يخلف جدلا لا ينتهي، وفسر اليمين بل حتى جزء من اليسار أن رئيس الحكومة أقدم على هذا الموقف تحت ضغط المغرب.
العامل الاجتماعي، يحضر المغرب يوميا في وسائل الإعلام الإسبانية عبر ملفات اجتماعية ذات حساسية خاصة مثل المخدرات القادمة منه نحو إسبانيا، أو قوارب الهجرة غير النظامية. ويستغل اليمين وخاصة اليمين القومي المتطرف حزب فوكس هذه الظواهر لتضخيم خطر المغرب. ويتبنى هذا الحزب أفكارا مثل «الاستبدال العظيم» ومفادها تخطيط جهات غير معروفة لهجرة مكثفة لضرب وحدة المجتمعات الغربية. وطالب خلال الأسبوع الجاري في البرلمان بضرورة ترحيل جماعي للمهاجرين بمن فيهم الأحفاد الذين ينتمون إلى الجيل الثالث. ويروج زعيم هذا الحزب المتطرف، سانتياغو أباسكال أن الشباب المغربي القادم عبر قوارب الهجرة هم في الأصل ميليشيات تهيئ لتغيير التركيبة السكانية لإسبانيا. واحتلت الهجرة غير النظامية المركز الأول كمشكلة تشغل بال الإسبان، واعتاد الإسبان ربط الهجرة بالمغرب، الأمر الذي يفسر ثقل العامل الاجتماعي.
وهكذا، مهما تحسنت العلاقات بين مدريد والرباط، تبقى صورة المغربي في المخيال الإسباني سلبية للغاية، إذ أن الكلمة الأخيرة ليست للدبلوماسية وإنما لثقل التاريخ والأحكام المسبقة والجوار الجغرافي.