أخبار عالميةالأخبار

نيويورك تايمز: كيسنجر منافق

نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” مقال رأي لبن رودس، نائب مدير الأمن القومي السابق، وَصَفَ فيه وزير الخارجية الأسبق هنري كيسنجر، الذي توفي عن 100 عام، بالمنافق.

 

يعتبر كيسنجر من أهم السياسيين الأمريكيين الذي أداروا فترة الحرب الباردة، وفتح العلاقات مع الصين، وأدار مفاوضات الاتحاد السوفييتي، وساهم في حرب فيتنام، ومتهم بالتغاضي عن جرائم الحرب في بنغلاديش وأندونيسيا، ولعب دوراً في الانقلاب بالتشيلي.

 

وقال إن كيسنجر جسّد الفجوة بين القصة التي تريد القوة العظمى قولها، والطريقة التي تتصرف فيها حول العالم، فقد كان انتهازياً مرة، ورجعياً في مرات أخرى، وكان مغرماً بممارسة القوة، وخالياً من القلق بشأن البشر الذين يتأثرون بها.

 

ولأنه لم يكن يرى أمريكا نسخة مبسطة عن “المدينة على التلة”، فلم يشعر بأنه غير ذي صلة، فالأفكار تدخل وتخرج من الأسلوب، ولكن القوة تظل كما هي. وفي الفترة ما بين 1969- 1977 كأهم موظف حكومي في التاريخ.

 

ولوقت كان الشخص الوحيد الذي عمل في نفس الوقت كمستشار للأمن القومي ووزير للخارجية. وهما وظيفتان مختلفتان منحتاه الفرصة لتشكيل السياسة الخارجية الأمريكية، ولو كانت أصوله اليهودية الألمانية واللغة الإنكليزية التي كان يتحدث بها بلكنة واضحة جعلته مختلفاً، فقد كان الشخص الطبيعي لمنصب مستشار الأمن القومي، الذي اكتسب زخماً في القرن العشرين، مثل العضو الذي ينمو ويمدّد نفسه.

 

ويقول الكاتب إنه، وبعد 30 عاماً، من تقاعد كيسنجر من عمله الحكومي، وبدء العمل في القطاع الخاص المريح، عمل الكاتب لمدة ثمانية أعوام بمركز كبير بمرحلة ما بعد الحرب الباردة، وما بعد 9/11. فكنائب لمستشار الأمن القومي، ومسؤوليات تتضمن كتابة خطابات واتصالات، فقد ركز عمله على القصة الأمريكية، وليس الأفعال التي تقوم بها. وفي البيت الأبيض أنت على رأس مؤسسة تضم أقوى اقتصاد وقوة عسكرية، ولها الحق في إدارة قصة راديكالية.  “نملك هذه الحقائق كبدهية، مثل حقيقة ولادة الناس أسوياء”، و”لكنني واجهت تناقضات تجسدت في القيادة الأمريكية، مثل معرفة حكومتنا أنها تسلّح المستبدّين، في وقت يجذب خطابها المعارضين الذين يحاولون الإطاحة بهم، أو أن بلدنا يطبّق قواعد لشن الحرب، وتحلّ النزاعات وتؤمّن تدفق التجارة، وفي الوقت نفسه تستثني أمريكا من تطبيقها عندما تصبح غير مريحة”.

 

ولم يشعر كيسنجر بعدم الراحة من هذه الدينامية، وبالنسبة له فقد تجذّرت المصداقية في ما تقوم بعمله لا بما تؤمن به، حتى الأفعال التي أفرغت مفاهيم حقوق الإنسان والقانون الدولي من معانيها. وأسهم في وقف حرب فيتنام وتوسيعها إلى كمبوديا ولاوس، حيث أمطرت أمريكا البلدين بقنابل أكثر من تلك التي أسقطتها على ألمانيا واليابان أثناء الحرب العالمية الثانية. وكان القصف عشوائياً، وأدى لمقتل المدنيين، ولم يحسن من الشروط التي أرادتها أمريكا لإنهاء حرب فيتنام، وكل ما قدمته هو المدى الذي يمكن أن تذهب إليه الولايات المتحدة للتعبير عن عدم رضاها من الهزيمة. ومن المفارقة أن هذه النسخة من الواقعية وصلت ذروتها في أثناء الحرب الباردة، وهو نزاع يدور حول الأيديولوجيا، فمن جانب العالم الحرّ، دعم كيسنجر حملات الإبادة مثل حرب باكستان ضد بنغلاديش، وأندونيسيا ضد تيمور الشرقية. وفي تشيلي وضع الأسس لانقلاب عسكري قاد إلى مقتل سيلفادور أليندي وفتح الباب أمام مرحلة رهيبة من الحكم الديكتاتوري.

 

والدفاع العبقري الذي قدّمه كيسنجر أن نهاية الاتحاد السوفييتي والثورية الشيوعية تبرر الوسائل، وبالنسبة لمناطق واسعة من العالم، فهذه العقلية حملت رسالة وحشية عادة ما مررتها أمريكا للسكان المهمشين: نهتم بالديمقراطية في بلادنا وليس لهم. وقبل انتصار اليندي بفترة قصيرة قال كيسنجر: “الأمور مهمة جداً لتترك للناخبين التشيليين لكي يقرروا بأنفسهم”.

 

هل كان هذا الأمر يستحق كل التعب؟ كان كيسنجر مركزاً تفكيره على المصداقية، وفكرة أن أمريكا تستطيع فرض الثمن على الذين يتجاهلون مطالبنا لتشكيل قرارات الآخرين في المستقبل. ومن الصعب فهم كيف ساهم الانقلاب في التشيلي، وقصف لاوس، والقتل في باكستان الشرقية- بنغلاديش اليوم- في النتيجة التي انتهت إليها الحرب الباردة.

 

لكن نظرة كيسنجر الخالية من العاطفة للشؤون الدولية سمحت له بأن يذيب الجليد مع قوى مستبدة بنفس ثقل الولايات المتحدة، تقارب مع الاتحاد السوفييتي سمح بتخفيض سباق التسلح، وانفتاح على الصين أدى لتعزيز الانقسام السوفييتي- الصيني، ودمج الجمهورية الشعبية الصينية في النظام الدولي، وكان مقدمة للإصلاحات الصينية التي أخرجت الملايين من الفقر. وحقيقة أن الإصلاحات بدأت في عهد دينغ تشياو بنغ، وهو نفس الرئيس الذي أمر بقتل المحتجين في ساحة تيانانمين، تعطي صورة عن إرث كيسنجر. فمن ناحية أدى التقارب الأمريكي- الصيني لتحسين ظروف الحياة في الجمهورية الصينية وتخفيف التوترات بين البلدين، ومن جهة أخرى ظهر الحزب الشيوعي الصيني كعدو جيوسياسي للولايات المتحدة، وفي طليعة موجة ديكتاتورية في السياسة الدولية، ووضع ملايين المسلمين الإيغور في معسكرات اعتقال، وهدد بغزو تايوان، الذي لم يحل وضعها كيسنجر بدبلوماسيته.

 

وعاش كيسنجر نصف حياته بعد مغادرته الحكومة، وزاد من وتيرة ما أصبح يعرف لدى المسؤولين السابقين في الحزبين من بناء مستقبل يقوم على الاستشارات التجارية والتعامل مع العقود الدولية. وعلى مدى عقود استقبل ضيوفاً وتجمعات من رجال الدولة وكبار رجال الأعمال، ربما لأنه كان قادراً على تقديم رؤية فكرية وإطار عن السبب الذي يجعل بعض الناس أقوياء، وبرر استخدام القوة. وأصدر رفاً من الكتب شذبت سمعته كحكيم يحمل نبوءة “أوراكل” في الشؤون الدولية.

 

وفي النهاية التاريخ يكتبه رجال مثل كيسنجر، وليس ضحايا القوى العظمى وحملات القصف، بمن فيهم الأطفال في لاوس الذين يقتلون حتى اليوم بسبب القنابل غير المتفجرة المنتشرة في كل أنحاء البلد.

 

ويمكن الاختيار لمشاهدة هذه القنابل غير المتفجرة في الشؤون الدولية، ومن ناحية إستراتيجية، كان يعرف كيسنجر أن القوى العظمى ترتكب هامشاً عميقاً من الأخطاء التي يغفرها التاريخ. وبعد عقود من الزمان، ففيتنام التي ضربتها أمريكا تريد تحسين التجارة مع عدوتها السابقة، وأصبحت بنغلاديش وتيمور الشرقية مستقلة الآن وتحصل على الدعم الأمريكي، ويحكم التشيلي اليوم رئيس من جيل الألفية، ووزيرة دفاعه هي حفيدة اليندي. فالقوى العظمى تعمل ما يجب عليها عمله، وتحرك عجلات التاريخ، وتحدد متى وأين ستسحقك عجلاتها، أو تتركك سالماً. لكن العالم عادة ما يخلط بين خدمة النفس أو الواقعية بالحكمة، فالقصة هي كل ما يهم، فبعد كل هذا انهار جدار برلين، ليس لأن لعبة الشطرنج للقوى العظمى هي التي حركت أحجار الرقعة، بل ولأن سكان الشرق أرادوا أن يكونوا مثل سكان الغرب الألماني، وما كان يهم هو الاقتصاد والثقافة والحراك الاجتماعي.

 

وقصة كيسنجر هي أمريكية، فهو ابن عائلة فرّت من النازية إلى أمريكا، وعاد مع الجيش الأمريكي ليحرّر معسكرات الاعتقال، وبطريقة منحته حسّاً حذراً وشعوراً بالأيديولوجية المسيانية المتجذرة في قوة الدولة، وهو ما لم يترك لديه أي تعاطف مع الضعفاء، ولم تدفعه لتغيير القوة العظمى الأمريكية ما بعد الحرب لكي تلتزم بالأعراف والقوانين والولاء لقيم معينة كتبت في النظام الدولي بقيادة الولايات المتحدة بعد الحرب. فالمصداقية ليست عن معاقبة عدو لكي ترسل رسالة لعدو آخر، فهي عما تقوله، وتوضح عن نفسك من خلاله.

 

ولا أحد يتوقع التمام في شؤون الدولة ولا العلاقات الإنسانية، لكن أمريكا دفعت ثمناً باهظاً لنفاقها. فعلى مدى العقود استنزفت أفعال أمريكا معنى الديمقراطية وجعلتها فكرة جوفاء، وبات من الصعب الإشارة إلى أي مكان لم تكن فيه “الديمقراطية” إلا المصالح الأمريكية. وتجاهل الأقوياء النظام القائم على القواعد، وأشاروا إلى آثام أمريكا لتبرير رفضهم.

 

ونرى عجلة التاريخ تدور كاملة، فهناك صعود في الشمولية والديكتاتورية حول العالم، وواضحة جداً في غزة، وروسيا لأوكرانيا.

 

و في غزة دعمت الولايات المتحدة عملية عسكرية قتلت مدنيين بوتيرة اقترحت مرة أخرى للعالم أننا انتقائيون في دعمنا للقوانين والأعراف الدولية” وبنفس الوقت “نرى ديمقراطيتنا في الوطن كوسيلة لملاحقة القوة داخل قطاع كبير من الحزب الجمهوري، وهذا ما قادت إليه مصلحة الذات. وعندما لا يوجد تطلع كبير، فلا توجد قصة لإضفاء معنى على أفعالنا وسياستنا وأصبحت الجيوسياسة مجرد لعبة صفرية.

 

كل هذا لا يعني تحميل كيسنجر كل المسؤولية، فهو في النهاية مخلوق لدولة الأمن القومي، وليس مؤلفها، لكن قصة فيها الكثير من الحذر، فبقدر ما تحتاج فيه الولايات المتحدة قصة لتبقى، فما يجمعها هو ديمقراطية متعددة الأعراق، وبلد اختلاف لا يشبه روسيا أو الصين. وفي النهاية لا بد من قصة ترى في طفل لاوس متساوياً في الكرامة مع أطفالنا، وأن أهل تشيلي لهم حق في تقرير المصير، وهذا هو أسّ الأمن القومي، لكن الأمريكيين ينسون في العادة.

زر الذهاب إلى الأعلى