ملفات ساخنة

كيف أيقظت حرب أوكرانيا عملاق أوروبا النائم من سباته؟

في نهاية العام الماضي، حينما كانت المستشارة أنجيلا ميركل لا تزال في منصبها، سألتُ أحد أفطن مُفكِّري السياسة الخارجية في حكومتها حول اعتماد البلاد المُقلِق على الأنظمة الاستبدادية، وامتناع الطبقة السياسية في الحكومة عن إعادة النظر في هذه العلاقات.

 

في ذلك الوقت، كانت برلين تستعد لتدشين خط غاز جديد قادم من روسيا، بينما أعلنت الشركات الألمانية الكبرى عن استثمارات جديدة في الصين. بيد أن ميركل كانت في طريقها لمغادرة المنصب، والسؤال الذي تبادر إلى ذهن الكثيرين حينئذ هو ما إذا كان تغيير القيادة سيجلب تغييرا في النهج الألماني. وقد تشكَّك المسؤول الألماني تجاه سؤالي، وأخبرني، شريطة عدم الكشف عن هويته ليستطيع مناقشة أعراف السياسة الألمانية بصراحة، قائلا: “الحرية لا تعني الكثير في ألمانيا كما في أماكن أخرى. فإذا كانت المفاضلة بين الهبوط الاقتصادي وتراجع الحريات، فإن ألمانيا على الأرجح ستختار الخيار الأخير”.

 

في نهاية فبراير/شباط الماضي، صعد “أولاف شولتز”، خليفة ميركل في المنصب، إلى منصة البرلمان الألماني وأثبت العكس، واضعا الحرية على رأس الأولويات في رد مذهل على غزو روسيا غير المبرَّر لأوكرانيا، مُحطِّما بذلك واحدا من محظورات السياسة الخارجية الألمانية التي تعود جذورها إلى تأسيس الجمهورية الفيدرالية منذ أكثر من 70 عاما. فقد أعلن شولتز أن ألمانيا ستُنهي اعتمادها على الغاز الروسي، وستُنفق 100 مليار يورو إضافية على جيش البلاد، وترسل المئات من الأسلحة المضادة للدبابات وصواريخ “ستينغر” إلى أوكرانيا لمساعدة جيشها في مواجهة الهجوم الروسي الشامل. هذا وربما تُجبَر ألمانيا على إطالة عمر محطاتها النووية لسد فجوة الطاقة الناتجة عن وقف إمدادات الغاز الروسي.

 

يُمثِّل كل واحد من هذه القرارات ما يشبه الزلزال. وبالنظر إليها جميعا فإنها تُعَدُّ عاصفة سياسية لم يتوقَّعها أحد، وبالتحديد لم يتوقَّعها أحد من مستشار لا يزال يخطو خطواته الأولى ويُعرف عنه التحفُّظ، أو من تحالف أحزاب ألمانية لها جذور ضاربة في الدعوة إلى السلام، أو من حكومة يقودها الديمقراطيون الاشتراكيون أصحاب التقارب التاريخي مع روسيا. لقد قال شولتز أمام البرلمان: “نحن على مشارف حقبة جديدة، وهذا يعني أن العالم الذي نحيا فيه الآن ليس هو ذاته الذي ألِفناه من قبل”. لذلك، من الصعب تقدير حجم التحوُّلات التي تشهدها ألمانيا دون العودة للنظر في الأساس الذي انطلقت منه البلاد.

 

أوضح الدبلوماسي الألماني “توماس باغِر” تلك المسألة إيضاحا بليغا عام 2019، حيث قال إن ألمانيا بُعِثَت من سقوط جدار برلين، وإعادة توحيد البلاد، وانهيار الاتحاد السوفيتي؛ مقتنعة أنها باتت أخيرا على الجانب الصحيح من التاريخ، لا سيما وقد اجتاحت الديمقراطية شرق أوروبا آنذاك، وطاردت الاستبداديين الأقوياء حتى سقوطهم من السلطة. كان ما وصفه فلاديمير بوتين -عميل جهاز المخابرات السوفيتي (KGB) الذي عاش في مدينة درسدن بألمانيا الشرقية وقت سقوط جدار برلين- بأنه “أكبر كارثة جيوسياسية” في القرن العشرين في الوقت نفسه ولادة جديدة لألمانيا، وبرهن كذلك -بحسب باغر- على أن التاريخ يسير في اتجاهه نحو الديمقراطية الليبرالية. كان انتهاء الحرب الباردة أيضا يعني السلام، الذي حمل معه انخفاضا جذريا في ميزانيات الدفاع الألمانية.

 

ألمانيا في عالم جديد

 

في الوقت ذاته، بزغت ألمانيا بوصفها قوة صناعية، وتغذَّت على الغاز الروسي وباعت أدواتها الآلية الرائدة عالميا للصين الصاعدة حينئذ، كل ذلك بينما اعتمدت على مظلة الأمن التي وفَّرتها لها الولايات المتحدة. بيد أن الطريق لم يخلُ من المطبات: الأزمة المالية في أوروبا، وضم روسيا لشبه جزيرة القرم، والإرهاب في الشرق الأوسط، وتدفُّق اللاجئين، لكنَّ أيًّا من ذلك لم يهز ثقة ألمانيا في نموذجها وفي رؤيتها للعالم.

 

ثم جاء “البريكست” (خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي)، وانتخاب دونالد ترامب، والإدراك المتنامي بأن شعار ألمانيا المُتمثِّل في “التغيير من خلال التجارة” لا يعمل كما ينبغي في نهاية المطاف. وبقيت الصين تتهافت على السيارات والتكنولوجيا الألمانية، لكنها كانت قد تحوَّلت بالتزامن مع ذلك إلى دولة مراقبة استبدادية ذات طموح عالمي، علاوة على كونها منافسا اقتصاديا شرسا لألمانيا.

 

بعد مرور أكثر من عقد على وجود ميركل في منصبها، ألمحت المستشارة الألمانية إلى أن شيئا ما ليس على يُرام. وأثناء وجودها في خيمة تُقدِّم الجعة في ميونخ عام 2017، عقب واحد من أول لقاءاتها مع ترامب، أعربت عن أن ألمانيا ربما لن تستطيع الاعتماد على الولايات المتحدة بقدر ما اعتمدت عليها في الماضي. غير أنها لم تُعرب أمام المواطنين الألمان عن انهيار ركائز نموذج ألمانيا ما بعد الحرب، ولم توضِّح لهم أنه ربما سيتعيَّن عليهم دفع ثمن الاضطراب القادم.

 

وفي واحد من أبرز إجراءاتها الأخيرة على صعيد السياسة الخارجية، ضغطت المستشارة لتمرير معاهدة استثمار بين الصين والاتحاد الأوروبي، رغم اعتراضات إدارة بايدن الجديدة حينها. ثم ما لبثت أن انهارت آخر محاولة للحفاظ على العالم القديم ذي القواعد الواضحة والتجارة دون قيود والعلاقات الهادئة بين القوى الكبرى، وذلك مع موجة العقوبات الاقتصادية المفروضة على الصين.

 

ومع ذلك، بعث شولتز برسالة إلى المصوِّتين خلال حملته الانتخابية بأن هناك القليل جدا مما يحتاج إلى التغيير في البلاد. وقد خاض السباق الانتخابي بوصفه الوريث الطبيعي لميركل، حتى إنه ظهر مُقلِّدا وضعية يدها الشهيرة (اعتادت ميركل تشكيل مثلث بملامسة أطراف أصابع يديها بعضها بعضا) مطمئنا الألمان بأن “موتي” (وتعني الأم بالألمانية وهي لقب ميركل الشهير) ستكمل المسيرة لكن في شكل رجل أصلع ذي خطاب هادئ يبلغ من العمر 63 عاما وينتمي إلى الحزب الخصم لحزب ميركل. وتحدَّث شولتز عن الحاجة إلى إحياء سياسة “أوستبوليتيك” (وتعني سياسة الاهتمام بالشرق، وقامت على تطبيع العلاقات بين جمهورية ألمانيا الغربية وأوروبا الشرقية، وخاصة جمهورية ألمانيا الشرقية “قبل الوحدة”)، وهي السياسة التي أرساها المستشار السابق “ويلي براندت”، المنتمي إلى الحزب الاشتراكي الديمقراطي أثناء الحرب الباردة. هذا ودعا شولتز إلى إحياء هذه السياسة من خلال التواصل الأوسع مع كلٍّ من موسكو وبكين.

 

انقلاب في العقيدة الألمانية

 

بيد أنه كما قال “هارولد ماكميلان” ذات مرة أثناء توليه منصب رئيس الوزراء البريطاني: “الأحداث، يا ولدي، الأحداث” لها طريقتها في فرض تحديات على القادة بشكل لم يتصوَّروه من قبل. ففي البداية، قلَّل شولتز من شأن استعدادات بوتين للقتال، أما خط “نوريد ستريم 2″، خط الأنابيب الروسي الواصل إلى ألمانيا الذي طالما واجه مقاومة شرسة من شركاء الاتحاد الأوروبي وواشنطن، فظلَّ “مشروعا تجاريا” غير سياسي يجب فصله عن أي نقاش حول العقوبات، بحسب ما قاله شولتز للعالم في منتصف ديسمبر/كانون الأول الماضي، حتى حينما بدأ بوتين حشد قواته على الحدود الروسية الأوكرانية. (وقد كان ذلك لسبب وجيه، إذ انضم “غيرهارد شرودر”، المستشار الألماني السابق عن الحزب الاشتراكي الديمقراطي منذ مغادرته المنصب عام 2005، إلى لوبي الغاز الموالي لبوتين).

 

كان تحوُّل شولتز المفاجئ بعد الغزو ردا جزئيا -بعد أسابيع من التلكؤ- على الضغط الهائل الذي أصبحت حكومته تواجهه، سواء في داخل ألمانيا أو بين أقرب حلفاء برلين. بيد أن الضغط وحده لا يُفسِّر التدابير التي أعلنها شولتز، التي فاقت ما يمكن أن يتوقَّعه أحد من سياسي معروف بالتحفُّظ “الهانزي” (نسبة إلى الرابطة التي ضمَّت مدنا تجارية في منطقة بحر الشمال والبلطيق، واستمرت من القرن الثاني عشر حتى القرن السابع عشر، وهي كناية هنا عن النزعة المحافظة التي تنأى بالدولة عن التقلبات المفاجئة أو القرارات الثورية).

 

تُعَدُّ هذه التحركات إقرارا بأن العالم قد تغيَّر بالفعل، وأن على ألمانيا الاستثمار بقوة في نظامها الدفاعي، وأن عليها دفع الكلفة الاقتصادية للدفاع عن قِيَمها، وأنها لم يعد بإمكانها الاستمرار كأنها نسخة أكبر من سويسرا في عالم من الخصومات السياسية الشاملة. وللإقدام على هذه الإجراءات، وقف شولتز ضد التيار داخل حزبه نفسه، المرتبط بالمؤسسة التجارية الألمانية، وما افترض الكثيرون أنه تفضيل السواد الأعظم من الألمان. ومع ذلك، دعمته الأحزاب المُكوِّنة لحكومته الائتلافية، وأشاد الإعلام الألماني بجرأته، وفي اليوم ذاته الذي أعلن فيه شولتز إجراءاته، تجمَّع أكثر من مئة ألف شخص في حديقة “تيرجارتن”، بجانب مبنى البرلمان الألماني (البوندستاغ)، لإظهار دعمهم لأوكرانيا.

 

بضربة واحدة، حرَّر شولتز نفسه من قالب ميركل المُتَّسِم بالحرص الشديد، الذي كان سببا في انتخابه ابتداء. هذا واتخذت ميركل أيضا قرارات تاريخية خلال 16 عاما قضتها في منصب المستشارة، بيد أن أيًّا من هذه القرارات لم يكن مُزلزلا لوضع ألمانيا دوليا أو مُكلِّفا لاقتصادها بقدر قرارات شولتز التي أعلنها بعد أقل من ثلاثة أشهر من توليه المنصب. وتظل المفارقة أن المحظورات التي تكوَّنت نتيجة ماضي البلاد المُخزي في الحرب العالمية الثانية لم تواتِ الفرصة لمحوها سوى بنشوب حرب أخرى في قلب أوروبا.

 

إن الأيام القادمة حبلى بأحداث لا نعرفها على وجه اليقين، فتطبيق التدابير التي أعلنها شولتز سيُمثِّل تحديا، ولعله يتوقَّع مقاومة لها من جماعات المصالح الألمانية المتجذِّرة. أما إصلاح الجيش الألماني الذي يعاني نقص التمويل فلن يحدث بين ليلة وضحاها، كما أن استبدال إمدادات الغاز الروسي يظل مهمة شاقة. ومن غير الواضح أيضا ماهية تداعيات كل ذلك على علاقات برلين مع بكين، التي أعلنت شراكة “بلا حدود” مع بوتين ورفضت إدانة اعتدائه، فالصين أهم من روسيا بالنسبة إلى الاقتصاد الألماني وكبرى شركاته، لكن التهديد الصيني لأمن ألمانيا، رغم كونه تهديدا على نار هادئة على عكس تهديد موسكو الحامي والمباشر، ليس أقل وطأة على أرض الواقع أو أقل إثارة للقلق.

 

لكن قد سبق السيف العذل، إذ صرَّحت وزيرة الخارجية الألمانية “أنالينا بَيربوك” الأسبوع الماضي أن “السلام والحرية في أوروبا لا يُقدَّران بثمن”. لقد حازت الحرية الأفضلية على الرخاء في نهاية المطاف.

زر الذهاب إلى الأعلى