أخبار عالميةالأخبار

التدخل الفرنسي في مالي

بعد 9 سنوات على أرض مالي، ها هي فرنسا تخطط للانسحاب تحت ضغط العداء الذي تواجهه في هذا البلد، فكيف بلغت هذه المرحلة؟ من القرار عام 2020 بإرسال تعزيزات لمحاربة الإرهاب في شمال البلاد، حتى الانسحاب المحتمل بعد عامين، ترسم صحيفة “ليبراسيون” (Liberation) الفرنسية صورة لإخفاقات التدخل الفرنسي في منطقة الساحل في 3 خطوات.

 

وفي تقرير بقلم بيير ألونسو، تبدأ الصحيفة بالسؤال الذي طرح منذ البداية ولم يجد جوابا قط وهو “متى نعود من هذا التدخل؟ مقسمة مراحل العملية من بدايتها حتى النهاية المتوقعة إلى 3 مراحل؛ تبدأ من قرار الرئيس فرانسوا هولاند عام 2013، في مدينة بو، بإرسال قوات برية لطرد الجماعات الجهادية من ملاذاتها في شمال مالي، إلى تحويل هذا التدخل في يوليو/تموز 2014 تحت مسمى برخان إلى قوة موزعة بين 5 دول، ثم إلى غياب قرار من قبل الرئيس إيمانويل ماكرون عام 2017 بعد انتخابه، رغم تصاعد العنف والتقدم الضعيف في عملية السلام.

 

فمتى خرجت الحرب الوحيدة على الإرهاب التي تقودها فرنسا على رأس تحالف عن صمتها؟ وكيف تحوّل الانتصار الذي استقبلته الشعوب بالهتافات والفرح إلى عداء منذ وصول المجلس العسكري إلى السلطة في مالي؟

 

13 يناير/كانون الثاني 2020.. دعوة بو

 

قال الكاتب إن الرئيس ماكرون استقبل أو على الأصح استدعى رؤساء دول الساحل الخمس، بوركينا فاسو ومالي وموريتانيا والنيجر وتشاد، في مدينة بو التي خرج منها 7 من 13 جنديا فرنسيا قتلوا في عملية في مالي في نهاية 2019، بوصفه قائد الجيوش الفرنسية الثكلى، وذلك في جو تصاعدت فيه الخسائر بين جيوش ثلاث من الدول، هي: بوركينا فاسو التي فقدت أكثر من 100 جندي ثم النيجر التي قتل منها 71 جنديا، ومالي التي قتل منها 49 في المدة نفسها.

 

في هذا المناخ القاسي للغاية -كما يقول الكاتب- “استدعى” الرئيس الفرنسي نظراءه في قمة بو، “ولم يدعهم”، كما قال مسؤول دفاعي كبير، موضحا “لا ينبغي أن يستدعى رؤساء الدول، لأن البعد الإنساني مهم للغاية بخاصة في دول الساحل، يجب ألا تكون هناك إهانة أو تعجرف”، قبل أن يضيف الباحث المتخصص في منطقة الساحل إيفان غيشاوا أن “هذا الاستدعاء الجاف والوحشي كان مهينا لرؤساء الدول وللشعوب التي عدّته جريمة”.

 

وأشار دبلوماسي فرنسي إلى أن ماكرون عندما نظم هذه القمة على عجل، كان يريد بها وضع حد لما بدأ يتصاعد في عواصم تلك الدول من انتقادات علنية للسياسة الفرنسية مع تلميحات إلى إصابة فرنسا بجنون العظمة، فضلا عن وجود توترات على مستوى عالٍ مع السلطات المالية، بقيادة إبراهيم بوبكر كيتا.

 

ونبه الكاتب إلى أن الخلافات العميقة بين فرنسا ومالي لا تعود إلى تاريخ وصول المجلس العسكري الحالي إلى السلطة، بل إن هناك خلافا جوهريا يتعلق بمسألة التفاوض مع الجهاديين الذي أراد الرئيس إبراهيم بوبكر كيتا إطلاقه مع الزعيمين الماليين الرئيسيين المرتبطين بالقاعدة، أمادو كوفا وإياد أغ غالي، وفقًا لتوصيات الحوار الوطني الشامل، وهو ما لا تريد فرنسا أن يحدث مطلقا.

 

وفي قمة بو، صُنّف تنظيم الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى على أنه العدو الرئيس، وجددت دول المنطقة رغبتها في أن تدعمها فرنسا في محاربة الإرهاب كما استدعيت للقيام بذلك، إلا أن هذه القمة -كما يقول الضابط السابق رافائيل برنارد- كانت لها “تأثيرات هائلة” على الأرض، بفضل التعزيزات.

 

فبدأت هيئة الأركان العامة للجيوش في باريس تضاعف البيانات الصحفية المظفرة التي يصعب التحقق منها، وأعلنت سقوط العديد من القادة الإرهابيين، مثل عبد المالك دروكدال، الزعيم التاريخي للقاعدة في بلاد المغرب الإسلامي والجهادي با أغ موسى في الخريف التالي، وغيرهما.

 

غير أن مصدرا في الأمم المتحدة أشار إلى أن “فرنسا تبرر وجودها بهذه النجاحات العسكرية، مع أن هذا الخطاب لا يروق للشباب في المالي في المناطق الحضرية ممن ليسوا على اتصال مباشر بالعدو”، وأسوأ من ذلك أن تكثيف العمليات يؤدي إلى زيادة هائلة في الانتهاكات التي ترتكبها الجيوش الوطنية، حيث قُتل عدد من المدنيين أو المشتبه بهم غير المسلحين على يد القوات المالية التي كان من المفترض أن تحميهم.

 

23 أبريل/نيسان 2021.. جنازة ديبي

 

أشار الكاتب إلى أن ماكرون الذي جلس على يمين الابن في الصف الأول يوم 23 أبريل/نيسان 2021 كان الرئيس الغربي الوحيد الذي حضر جنازة الرئيس الراحل إدريس ديبي، “الرجل القوي” الذي حكم تشاد بلا منازع طوال 30 عاما، وكان ابنه محمد، رئيس الحرس، يستعد لخلافته، في حين عدّته أحزاب المعارضة “انقلابا مؤسسيا” واستنكرته.

 

يؤكد إيفان غيشاوا أن “حضور ماكرون في جنازة ديبي بقي مطبوعا على شبكية عين الرأي العام”، وقد زاد من سوء الأمر ما شهدته المنطقة من اضطرابات خطيرة بعد قمة بو، حيث سقط الرئيس المالي بانقلاب لم تبد فرنسا استياءها منه، تلاه انقلاب آخر “انقلاب داخل الانقلاب” في مايو/أيار 2021 نددت به بقوة هذه المرة.

 

ويلخص غيشاوا الموضوع قائلا إن فرنسا “تعاقب على الاستيلاء على السلطة بالسلاح في مالي، وتتبنّى النقل الوراثي للسلطة في تشاد، والجميع يراها”.

 

ويضيف ريتشارد مونكريف من مجموعة الأزمات الدولية أن “الناس يقارنون، ففي أفريقيا الناطقة بالفرنسية يدرك الناس دور فرنسا في المنطقة”، ويمنحون وراثة نجل إدريس ديبي للسلطة على مواقع التواصل الاجتماعي لقب “الانقلاب الحلال”.

 

وتعزز فكرة الكيل بمكيالين التي تتبنّاها فرنسا، حسب رأي شعوب المنطقة، ما قامت به من قصف لمتمردي اتحاد قوى المقاومة عام 2019 لمساعدة حليفها التشادي، بعد أن كانت سلطته مهددة، من دون أن تكون لذلك علاقة بالجهاديين، في حين جعلت باريس من المتمردين الانفصاليين الماليين حلفاء مناسبين لها، رغم أن باماكو تعدّهم جماعات إرهابية.

 

وبعد أسابيع قليلة من تشييع جنازة ديبي والانقلاب الثاني في مالي، أعلن ماكرون “نهاية برخان” في مؤتمر صحفي بشأن مجموعة السبع، وذلك أثار استغرابا في وزارة الخارجية التي علمت بالموضوع في اللحظة الأخيرة، مما يوحي بما ينتقده العديد من المراقبين من تركز صنع القرار في مقر الرئاسة.

 

ومع أن الإعلان عن نهاية “المهمة” كان متوقعا منذ بضعة أشهر، فقد كان من الممكن -كما يقول الكاتب- أن يكون في قمة مجموعة دول الساحل الخمس في نجامينا في فبراير/شباط 2021.

 

إلا أن الدول الخمس طلبت التأجيل، مع أنه -حسب خبير في الدفاع- “من الجيد اعترافنا أخيرا أن الوضع لا يمكن حله إلا من قبل منطقة الساحل، من دون أن تكون فرنسا في الخط الأول”.

 

لكن ماكرون تعمّد عرقلة “الدول التي لا تتحمل مسؤولياتها”، واستخدم مصطلحا عنيفا، أشار به ضمنا إلى فشل الأنظمة في المنطقة، ليأتي رد فعل مالي بإعادة هيكلة برخان قاسيا، حيث شجب رئيس الوزراء شوغيل مايغا، في الجمعية العامة للأمم المتحدة، “تخلي فرنسا عنهم”، وأقسم على “استكشاف سبل ضمان الأمن مع الشركاء الآخرين”.

 

23 ديسمبر/كانون الأول 2021.. تأثير فاغنر

 

في هذا التاريخ اعتمدت 15 دولة، من ضمنها فرنسا، بيانا صحفيا يقول “نحن الشركاء الدوليين مصممون على دعم مالي وشعبها، وندين بشدة نشر المرتزقة على الأراضي المالية”، كأنهم يوقعون آخر فصل من القطيعة بين باماكو والأوروبيين، في وقت يبدو فيه أن السلطات الفرنسية لا تدرك أن أشباح ​​قوات فاغنر الروسية غير الحكومية كانت تراود السلطات المالية منذ شهور.

 

وعلى الرغم من نفي المجلس العسكري المالي المتكرر لوجود فاغنر، فقد أصبح من المعروف أن بضع مئات من المرتزقة يسهمون في بناء حرس قوي قادر على حماية سلطة المجلس العسكري، كما يعتقد العديد من المتحدثين في فرنسا، وكدليل على ذلك تأجيل الانتخابات المقرر إجراؤها في فبراير/شباط 2022، فقد أثار غضب مجموعة دول غرب أفريقيا، الوسيط المعين للأزمة المالية التي فرضت عقوبات قاسية جدا على باماكو.

 

ومع ذلك، فإن فرنسا تبدو -كما يرى الكاتب- أقل وحدة منها في أي وقت مضى بشأن مالي، إذ تعمل فرقة تضم قوات خاصة من نحو 10 دول أوروبية، تسمى “تاكوبا”، على تدريب ومرافقة وحدات صغيرة متحركة من الجيش المالي في القتال.

 

ومن المفترض أن تتسلم مهامها من برخان التي بدأت التراجع مع انسحابها من 3 قواعد في خريف عام 2021، لكن وجود فاغنر غيّر كل شيء، لأنه لا أحد يريد أن يرتبط اسمه بممارسات قوات “فاغنر” المتهمة بارتكاب انتهاكات في سوريا وجمهورية أفريقيا الوسطى.

 

ويقول مصدر دبلوماسي إن العيش مع الروس مستحيل للتشيكيين والإستونيين، ومسألة حقوق الإنسان لدى الآخرين هي الموضوع، كما سيغادر السويديون بعد انتهاء فترتهم في فبراير/شباط 2022، وقد أعلن المجلس العسكري أن الدانماركيين غير مرغوب فيهم، ليغادروا، وهكذا بدأ التعاون العسكري على الأرض يعاني.

زر الذهاب إلى الأعلى