أخبار عربيةالأخبار

رحيل أحد أهم مفكري “السلبطة”

سيد القمني ظاهرة لافتة تستحق التوقف عندها، لكونها لافتة، لا لكونها قدمت جديدا؛ فمفكرو “السلبطة” عبارة عن جماعة من المفكرين استفادوا من الظهور الإعلامي الصاخب، والتعبيرات الجريئة في كتبهم، رغم ضعف التحليل فيها، فضلا عن غياب المنهج التاريخي الرصين أو نقد الروايات وما شابه.

 

أما الإساءة للمقام النبوي والتجاوز في التعامل مع المقدسات، فهو موضوع يقف عنده القلم أمام درك سحيق نزله القمني ولم يخرج منه، ولم يعد بطائل، فلا هو توقف أو تراجع، ولا ناقش الآخرين بهدوء؛ إنما انتشى بسخط الناس، وظن نفسه أتى بما لم يستطعه الأوائل، لمجرد سخطة الخلق عليه.

 

وكثير من مفكري زماننا هكذا، وهذا ما هبط بمستوى الفكر في الحقيقة، فإن أمثال هؤلاء يقعون في الجدال الخطابي، والألفاظ الرنانة، والدعاوى الخاوية بغير طائل، فيرد عليهم الطرف الآخر بما يرغبون في الحصول عليه؛ فمجرد رد الطرف المتدين بتكفير أو تفسيق أو هجوم لاذع، يجد فيه مفكرو “السلبطة” وشعراؤها وأدباؤها -ودونكم شحرور ورصفاؤه- ما يريدون.

 

أما دعوى الانتماء للمعتزلة، فدعوى يسلينا بها اليسار الإسلامي، واليسار عموما، ليسمحوا لأنفسهم بإلصاق صفة المفكر الإسلامي بأنفسهم، وهي تسلية غدت ممجوجة؛ فليس كل جهد عقلي في الشأن الديني اعتزالا، ولا كل اعتزال بالضرورة حرية عقلية، ودونك “المحنة”، وقد تولى أمرها المعتزلة تضييقا على المخالف، فمن المدافع عن الحرية حينئذ؟

 

والمعتزلة برغم تصنيفهم فرقة مبتدعة، فإنهم -والإنصاف مطلوب- امتلكوا منهجا وإن خالفناهم، وامتلكوا بيانا ومقدرات متنوعة، بل وإحساسا بعظمة الإسلام في ذاته، فمن يقرأ دفاع القاضي عبد الجبار عن نبوة النبي -صلى الله عليه وسلم- وبيان الجاحظ في دفاعه عن الإسلام ورده على مناوئيه، يدرك أن للقوم من الإحساس بالدين، وكرامته، واحترامه، بل والأكثر من ذلك تجد -عند بعضهم- نسكا وزهدا، لا تجد عُشره عند هؤلاء.

 

ومن عجب أن ترى مفكري “السلبطة” ثابتين ثباتا -لا يلين- على قناعاتهم، ومبادئهم، ولا يتزحزحون عنها، فإن كثيرا من المفكرين المميزين تتغير اتجاهاتهم، ويعايشون تحولات متنوعة، بل حتى وإن ثبتوا على قناعات محددة، إلا أنهم -بحكم الاطلاع والقراءة والبحث الجاد- يغدون أقل حدة في مواقفهم، ويصبحون أكثر مرونة وسعة، ومن هنا تفهم عظمة أولئك الذين كانوا يوسعون باب العذر للخلق من العلماء والمفكرين؛ فهذا نتاج مرونة عقلية وسعة في النظر والأفق، لا نتيجة ضعف أو غياب منهج. فبينما تجد عبد الرحمن بدوي كتب بعمق في الفلسفة، إلا أنه ختم حياته منافحا عن القرآن والنبي -صلى الله عليه وسلم- في كتابين، رادا على شبهات المستشرقين، وكذا عابد الجابري الذي كتب عن القرآن الكريم، واهتم به في أواخر أيامه.

 

وبكل أسف، إن هبوط مستوى التيار العلماني أو العقلاني أو الفلسفي حتى في مستوى الخطاب الإعلامي يؤدي بالضرورة إلى هبوط المستوى العام، ومن تأمل مسار التاريخ عرف ما أقصد؛ فالمستوى الفكري يعدي برقيه أو هبوطه. فعندما تجد خصما راقيا، ترتفع بأدائك، وتقوي حججك، وتعزز منهجك؛ لأن من أمامك ليس سهلا، أما عندما يسفل خصمك، فلن تعدم من فريقك من يسفل، ويجاريه، وينساق عاطفيا ويهبط الأداء العام فكريا وخطابيا.

 

ومن المؤسف -والأمر ما نرى- أن المستوى هبط، فلا فلسفة زكي نجيب أو أحمد لطفي السيد، ولا صحافة أحمد أمين، ولا بيان طه حسين، أو منهج وإحكام عبد الرحمن بدوي، أو حتى الجابري، ولا حتى بحث علي حرب أو مسعود ضاهر وتحليلاتهم. وفي المقابل، تجد إصرارا على الهبوط، كأنه بحث حثيث عن القاع، وفي ساحة الإسلاميين، غاب فكر عمارة، وإحكام العقاد، وبيان الرافعي، وقوة محمود شاكر؛ فوقعنا أسرى مثقفي ومفكري “السلبطة”، و”الجعجعة” الإعلامية الفاقعة اللون، الخاوية من الروح والانضباط.

 

تبقى نقطة فيما يتصل بالمنهجية، إذ إن استيراد المناهج العلمية لفحص الظواهر ليس جديدا على ثقافتنا، ولا حضارتنا، وما ندعيه من خصوصية الحالة الإسلامية ليس بدعا من القول، ولا غريبا على الفهم. فبينما نتشارك مع الناس جميعا الظواهر، والأحاسيس، والمشاكل، إلا أن موجهاتنا، وقيمنا، وحركتنا التاريخية كانت مرتبطة بعوامل، لا يمكن إغفالها، بل من الواجب استثمارها، وتفعيلها لمن أراد مخاطبة أمة، وتحريك شعب، وإنهاض جيل.

 

ولا ينجح تجديد لا يتفاعل إيجابا مع الموروث، ولا ينفع عمل منبت غريب؛ فالفكرة المقتلعة من بيئة والمغروسة في بيئة أخرى تغدو مميتة بتعبير مالك بن نبي، ودونك تجارب الأمم؛ فهل خلعت اليابان تقاليدها كلها؟ بل على العكس، أصلحت ما أرادت، واستصحبت من الأفكار ما رأت قابليته للاستمرار، وأكملت مسيرتها، وكان قرار نخبة وملك فيما سمي بـ”حقبة ميجي”، لكنه في الوقت ذاته كان نهجا كاملا واضح المعالم، وكذا الحال في فيتنام حينما أرادت الاستقلال، بنت على تراثها، وشذبته، وانطلقت منه، وكذلك الصين، وكذا كل الأمم لا تنفك عن ذاتها، وموجهاتها، وإنما تنظر في الأفكار التي نبتت عبر التاريخ، فتستصلح، وتستبقي، وترفض وتنفي.

 

ولا يسع مفكري “السلبطة” و”الطنطنة” الإعلامية أن يرتقوا لهذا، فمن نحتاجهم اليوم هم من يترسمون مناهج رصينة، ويعرفون أين تقف أقدامهم، وإلى ماذا تنظر أعينهم، وما مجال عمل أيديهم.

 

مضى القمني، وانتهى شأنه، والباقي عمل أجيالنا القادمة، عبرة وذكرى.

زر الذهاب إلى الأعلى