ملفات ساخنة

كيف تُخطِّط الصين لإبادة الدولار في آسيا

تسعى الصين للإطاحة بالدولار من احتياطات آسيا عبر اعتماد اليوان الرقمي عُملة رسمية في شراكاتها التجارية داخل الأسواق الآسيوية. المحرك الأساسي لهذه العُملة تطبيقان هما “Alipay” و”WeChat Pay”، إذ يحظيان بإقبال متزايد في آسيا وحول العالم في وقت تعجز فيه الولايات المتحدة عن إيجاد آلية لتنظيم هذه العملات الرقمية حتى اللحظة وتتعامل معها بوصفها تهديدا لاستمرار الوضع القائم.

 

في واحد من آخر أعماله رئيسا، أصدر دونالد ترامب أمرا تنفيذيا يحظر ثمانية تطبيقات برمجية صينية منها تطبيق “Alipay”، وهو أكبر تطبيق للدّفع عبر الهاتف المحمول في العالم. يُجري الأشخاص في الصين وبازدياد في البلدان الأخرى جميع أنواع المعاملات عبر كلٍّ من “Alipay” و”WeChat Pay”، وهو تطبيق آخر حُظِرَ بأوامر من ترامب ويُستخدم لكل شيء بدءا من دفع فواتير الكهرباء إلى شراء الطعام من الباعة الجائلين إلى التسوق في المتاجر الراقية.

 

سعى حظر ترامب الصادر في 5 يناير/كانون الثاني إلى معالجة المخاوف من أن تسمح هذه التطبيقات الصينية الشعبية لبكين بالوصول إلى بيانات حساسة عن الأميركيين، لكن هيمنة الصين الناشئة في مجال التكنولوجيا المالية “Fintech” تطرح مشكلة أكثر جوهرية بالنسبة للولايات المتحدة. لا يمكن لواشنطن أن تثق في أن الحزب الشيوعي الصيني سوف يُسخِّر نفوذه المتنامي في الأسواق المالية لصالح الجميع. وعلى الأرجح فإن بكين سوف تستخدم التكنولوجيا المالية لاحتلال مكانة متقدمة في التجارة العالمية وتعزيز حالة المراقبة ووضع الأساس لتحدي الدولار الأميركي باعتباره العُملة الاحتياطية في العالم.

 

بدأت تطبيقات الدفع عبر الهاتف المحمول في الصين بوصفها طرقا ممتعة وسهلة لإرسال هدايا العطلات “المغلف الأحمر” إلى العائلة والأصدقاء في العام القمري الجديد، لكنها سرعان ما ازدهرت لتتحوّل إلى صناعة هائلة. يستخدم ملايين المستهلكين الصينيين تقنيات الدفع الرقمية في المعاملات اليومية. لقد قفزت الطبقة المتوسطة المزدهرة في الصين عن بطاقات الائتمان وانتقلت مباشرة إلى المدفوعات الرقمية التي يتجاوز حجمها الآن 42 تريليون دولار سنويا في الصين، وهو ما يقرب من 150 ضِعْف حجم المعاملات الأميركية على تطبيقات مثل “PayPal” و”Venmo”.

 

يُهدِّد صعود شركات التكنولوجيا المالية الصينية بتقوية دولة المراقبة الأكثر انتشارا في العالم. تمتص “عوادم البيانات” كما تسمى مليارات المعاملات الرقمية، وتعمل مُكمِّلا للبيانات الحالية المتوفرة من تقنيات التعرف على الوجوه وتواريخ البحث واتصالات الشبكات الاجتماعية، ويزود الحزب الشيوعي الصيني ببيانات الزمان والمكان من أنظمة الملاحة العالمية وتاريخ المعاملات وسجلات السفر وتفاصيل الحساب المصرفي والمزيد. تُتيح هذه المعلومات مجتمعة للسلطات الصينية مراقبة أفراد ومجتمعات معينة عن كثب، والتحكم فيها عن طريق تقليل أو إلغاء الوصول إلى الحسابات المصرفية وتجميد طرق السفر ومنع الدخول إلى مواقع محددة. وللأسف، فقد بدأت السلطات المالية في هونغ كونغ مؤخرا في مطالبة البنوك بالإبلاغ عن المعاملات لمساعدة السلطات في تحديد النشطاء المؤيدين للديمقراطية.

 

يشعر المسؤولون خارج الصين بقلق مفهوم من كيفية تسخير السلطات الصينية البيانات التي ينتجها المستخدمون في بلدانهم، إذ تفخر “Alipay” بمستخدميها في أكثر من 110 دولة. وحذّر عضو البرلمان الهندي ناريندرا جادهاف في عام 2018 من أنه إذا تمكّنت شركات التكنولوجيا المالية الصينية من الوصول إلى البيانات المالية لملايين الهنود والشركات الهندية، فإن ذلك سيُعرِّض الهند إلى “مخاطر جيوسياسية خطيرة”. دفعت مخاوف مُماثلة بالأمر التنفيذي الذي أصدره ترامب في يناير/كانون الثاني بحظر كلٍّ من “Alipay” و”WeChat Pay” وتطبيقات البرمجيات الصينية الأخرى.

 

لكن هيمنة الصين في مجال التكنولوجيا المالية تَعِد أيضا بتعزيز الطموحات التوسعية للحزب الشيوعي الصيني بطريقة أخرى تؤدي إلى ربط البلدان الأخرى بالاقتصاد الصيني. تعمل شركات التكنولوجيا المالية الصينية مثل حصان طروادة الجغرافي الاقتصادي. أولا، تدمج شركات “Alipay” و”WeChat Pay”، وهي الشركات التي تُشكِّل 95% من سوق مدفوعات الهاتف المحمول في الصين نفسها، في الحياة الاقتصادية اليومية في بلد آخر.

 

بعد ذلك، من خلال الاستفادة من هذه البنية التحتية المالية تحصل هذه الشركات وغيرها من الشركات الصينية الأخرى على تراخيص مصرفية رقمية، وتتوسع منها بسرعة في قطاعات أخرى مثل التأمين الرقمي والائتمان الاستهلاكي والتحويلات والإقراض. سرعان ما تندمج هذه الشركات في البلد المُضيف بحيث يتعذر إزالتها. على سبيل المثال، في أوائل ديسمبر/كانون الأول كان ثلاثة من الفائزين الأربعة الذين اختيروا من بين مجموعة من 21 مُتقدِّما بتراخيص الخدمات المصرفية الرقمية في سنغافورة صينيين أو مدعومين بشدة من المستثمرين الصينيين. لم تكن الشركات الأميركية وغيرها من الشركات الغربية في أي مركز منها، مما ترك الصين في ميدان مفتوح للعب.

 

محاولة الصين الهيمنة على التكنولوجيا المالية في آسيا هي خطوة نحو هدف أكبر ألا وهو تحقيق هيمنة العُملة الاحتياطية العالمية. في الخريف الماضي، توقّع المحللون في شركة الخدمات المالية الأميركية مورجان ستانلي أن اليوان الصيني قد يتجاوز الين الياباني والجنيه الإسترليني ليصبح ثالث أكبر عُملة احتياطي في العالم بحلول عام 2030، بحيث يُمثِّل ما بين 5% إلى 10% من أصول احتياطي النقد الأجنبي العالمي. تتحدّى بكين نفوذ الدولار الأميركي على جنوب شرق آسيا وأجزاء من أفريقيا، حيث تستعد في العام المقبل على الأرجح لإطلاق يوان رقمي سيادي سيجعل المعاملات أسهل ويُمكِّن الصين أيضا من تتبُّع كيفية استخدام عُملتها بشكل أفضل.

 

سيتمكّن المستهلكون والتجار في جميع أنحاء جنوب شرق آسيا قريبا من استخدام اليوان الرقمي عبر تطبيقات “Alipay” و”WeChat Pay”. ولاحقا، ستعمل التطبيقات موزعا لليوان الرقمي، حيث تجد الشركات المحلية أن استخدام اليوان أكثر كفاءة من الدولار في المعاملات مع الشركات الصينية. يمكن أن يدفع الحزب الشيوعي الصيني بعد ذلك المؤسسات والشركات الكبرى التي تُجري معاملات ضخمة مثل سداد مدفوعات الفائدة وتمويل سلاسل الإمداد إلى استخدام اليوان الرقمي بدلا من الدولار الأميركي.

 

لقد بدأ هذا التحوُّل بالفعل حتى قبل إصدار العُملة الرقمية السيادية الجديدة للصين. مع نمو التجارة الثنائية بين الصين ودول جنوب شرق آسيا في العقود الأخيرة نمت كذلك حصة التجارة التي تتم باليوان الصيني، مما أدّى إلى تآكل حصة الدولار الأميركي في التجارة الثنائية. أشار دينو دجالال، السفير الإندونيسي السابق لدى الولايات المتحدة، إلى أن التجارة الثنائية لإندونيسيا مع الصين في عام 2019 بلغت 79.4 مليار دولار، بزيادة عشرة أضعاف عن عام 2000، مما يجعل استخدام اليوان “أكثر جاذبية” للشركات الإندونيسية عند التعامل مع الشركات الصينية. تضاعفت حصة اليوان في التجارة الثنائية بين الصين وإندونيسيا أربع مرات في السنوات الأربع الماضية.

 

قد تبدأ دول المنطقة قريبا في زيادة حصة اليوان في احتياطياتها من العملات الأجنبية. ولعل المثال الروسي يُنذر بمستقبل جنوب شرق آسيا في هذا الصدد. رفعت روسيا كثيرا من حصة اليوان في احتياطياتها من أكثر من 2% في 2018 إلى أكثر من 14% في 2019، كما خفضت حصتها من الدولار الأميركي من نحو 30% إلى نحو 10% خلال الفترة نفسها، وانخفضت حصة الدولار في التسويات التجارية بين الصين وروسيا من 90% إلى 46% منذ عام 2016.

 

ويمكن لليوان الرقمي الصيني أن يسحب المعاملات بعيدا عن منصات الصرافة التي يُهيمن عليها الغرب مثل أداة “SWIFT”، وهي الآلية الرئيسية التي تحافظ على هيمنة الدولار الأميركي في التجارة العالمية. وصف مسؤولو الحزب الشيوعي الصيني نظام “SWIFT” بأنه وسيلة للولايات المتحدة للحفاظ على “الهيمنة العالمية” وجني “أرباح ضخمة بفضل منصة الاحتكار”. يجب أن يأخذ المسؤولون الأميركيون التحركات الصينية في هذا المجال على محمل الجد. يعتقد ماكس ليفشين، أحد مؤسسي “PayPal”، أنه إذا لم تقم الولايات المتحدة بعملها جماعيا وجعلت نسخة رقمية من الدولار متاحة بسهولة أكبر “فإننا نخاطر بترك الصين تصبح العُملة الاحتياطية الرقمية في العالم”. ستفقد الولايات المتحدة نفوذها وتأثيرها على العديد من البلدان إذا اختارت استخدام اليوان على الدولار بازدياد.

 

يجب أن تكون الولايات المتحدة جادّة في تقديم بدائل لدول أخرى لشركات التكنولوجيا المالية الصينية، والاستفادة من قوة شركات التكنولوجيا الأميركية. ومع ذلك، كانت هذه الشركات بطيئة في إشراك نفسها في المنافسة المتزايدة مع الصين. استثمرت شركة “Alibaba” أو “Tencent” في كل واحدة من 13 شركة “يونيكورن” للتكنولوجيا، وهي شركة ناشئة تُقدَّر قيمتها بمليار دولار أو أكثر، في جنوب شرق آسيا. على النقيض من ذلك، استثمر “Facebook” و”PayPal” في أول لاعب في مجال التكنولوجيا المالية في جنوب شرق آسيا وهي “Gojek” في مارس/آذار الماضي فقط. يجب ألا تخرج الشركات الأميركية مثل “Facebook” و”Google” و”PayPal” من أهم أسواق النمو في العالم التي تقع في الغالب في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. في غضون ذلك، تحتاج حكومة الولايات المتحدة إلى إيجاد طرق لتشجيع عمالقة التكنولوجيا لديها على الشراكة مع شركات التكنولوجيا المالية غير الصينية حول العالم. كما ينبغي أن تُحفِّز أصحاب رؤوس الأموال المغامرة الكبار في الولايات المتحدة على الاستثمار بطرق تخدم المصالح الوطنية، تماما كما تفعل الصين. في النهاية، تحتاج الولايات المتحدة إلى المساعدة في تزويد الدول ببديل للتبعية التكنولوجية للصين.

 

تُعَدُّ أنظمة المدفوعات التجارية الرقمية الشائعة والملائمة التي يستخدمها المستهلكون الصينيون يوميا جزءا مهما من دولة المراقبة الاستبدادية التي تُحرِّكها التكنولوجيا في الصين، وهو ما نُطلق عليه “نظام التشغيل الصيني”. من خلال التكنولوجيا المالية فإنّ الصين عازمة على المطالبة بحصة أكبر في الاقتصاد العالمي وكسب سيطرة أكبر على النظام المالي العالمي. لا يزال أمام الولايات المتحدة الوقت لتنتصر في هذه المنافسة، لكن الفشل في التصرُّف عاجلا سيُجبرها على لعب لعبة شاقة للحاق بالركب.

 

 

المصدر: الجزيرة

زر الذهاب إلى الأعلى