مواضيع ثقافية وسياسية

جزيرة تطوي صفحة انقلابات تركيا

ياسين أقطاي مستشار الرئيس التركي

 

في 27 مايو/أيار 1960، بدأ عصر الانقلابات العسكرية في تاريخ الجمهورية التركية، ونتج عن هذا الانقلاب إعدام رئيس الوزراء المرحوم عدنان مندريس شنقا، مع اثنين من وزراء حكومته. وقد تم الأسبوع الماضي تنظيم سلسلة من الفعاليات التذكارية بمناسبة مرور 60 عاما على هذه الذكرى الأليمة في تاريخنا.

 

وتعلمون أنّ هذا الانقلاب الأول كان له تأثير سيئ في حياتنا السياسية؛ فأصبحنا في تركيا متعوّدين على استقبال انقلاب عسكري جديد على الحكومات المنتخَبة في كلّ عشر سنوات تقريبا. وحتّى في حالة غياب الانقلابات كانت وصاية العسكر على الحكومات المنتخَبة أشبهَ بحقّ يوافق عليه الجميع.

 

لذا فإن السياسيّين كانُوا يستأذنون الجيش، ويسألونه مباشرة قبل اتّخاذ القرارات الكبرى، وحتّى لو لم تسأل الحكومةُ الجيشَ مباشرة؛ فإنّها كانت -قبل اتخاذ أي قرار- تكون حذِرةً، وتفكّر مئة مرة في رأي الجيش ورود أفعاله المحتمَلة تجاه القرار.

 

وقد واصَل العسكر وصايتهم على السياسة، فأحيانا يتدخّلون في قضايا معيّنة ويتحدّثون مباشرةً، وأحيانًا يعبّرون عن موقفهم من خلال تصريحات تُنشَر في الصحف، بعنوان “جنرال أو مسؤول عسكري لم يصرّح باسمه”.

 

واليوم، وبعد 60 عاما على هذا الانقلاب، لم يبقَ لوصاية الجيش أيُّ أثرٍ في المشهدُ السياسي في تركيا.

 

فمنذ عام 2007 -على الأقلّ- بدأ المشهد بالتحوّل تماما، منذ أنْ ردّت حكومة حزب العدالة والتنمية على بيان قيادة الجيش؛ إذْ أقدمت قيادةُ الجيش على نشر بيان على الإنترنت تُوضحُ فيه الشروط التي ترى أنّها يجب أن تتوفّر فيمن يتم انتخابه لمنصب رئيس الجمهورية التركية، وحذّرت من انتخاب رئيس جمهورية ترتدي زوجته “الحِجاب”.

 

وفي الواقع، إنّ حكومة حزب العدالة والتنمية التي تولت السلطة تحت قيادة رجب طيب أردوغان، بدأت -منذ اليوم الأوّل لوصولها إلى السلطة- بالاعتراف للشعب بتدخل الجيش وتسلُّطه على الحياة السياسة، وبدأت تنتقدُ هذا التدخل علنًا.

 

لكن، لم يكن تكيُّف العسكر أو تقبُّلهم لهذا الوضع الجديد يسيرًا وسريعا، فقد حاولوا -بإصرار- الاستمرارَ في أنشطتهم القديمة التي تعوّدوا عليها، مثل المحافظة على قانون “الحظر المفروض على الحجاب في الجامعات”، وعدم السّماح بتحسين التعليم الديني وتوسيعه، فمثلا كانوا يقفون سدًّا منيعا في وجه توسيع انتشار “مدارس الأئمة والخطباء”، إذ كانوا يقيّمون مسائلَ كالحجاب والتعليم الديني في خانة ما يُسمّى في اللغة التركية “الارتجاع”، وفي اللغة العربية “الرجعية”.

 

في البداية لم يكن العسكر يواجهون مشكلة في الاستمرار والإبقاء على عاداتهم القديمة، لأنّ رئيس الجمهورية -وقتئذ- كان الرئيس أحمد نجدت سيزر، وهو من نفس ذهنيّتهم وتوجُّههم الفكري.

 

لذلك، فإنّهم حين نشروا بيانهم -المذكور سابقا- على الموقع الإلكتروني الرسمي للقوات المسلحة التركية (TSK) في 27 أبريل/ نيسان 2007، كانوا ينتظرون من الحكومة أن تمتثل للأوامر وتستقيل فورا، كما تعوّدوا مع الحكومات السابقة.

 

ولكنْ حدَثَ شيء غير متوقَّع، إذ أصدر حزب العدالة والتنمية في أقلّ من 24 ساعة بيانا مضادًّا، يُعلنُ فيه أنّ “الجيش تحت سلطة الحكومة وقيادتها، لا العكس”، وذكّر البيانُ الجيشَ بأنّه مؤسسة تحت سلطة الحكومة المنتخَبة ديمقراطيًّا؛ وأنه ليس له أيّ سلطة أو حقّ أو صفة تُخوِّله التدخّلَ في تحديد من سيكون رئيس الجمهورية.

 

في الواقع، كان هذا التاريخ (27 أبريل/نيسان 2007) نقطةَ تحوُّل فاصلةً في تاريخ الجمهورية التركية، إذ فقَدَ العسكرُ كلّ أسباب التدخل “المشروع” أو الانقلاب؛ بردة فعل حازمة يواجهها للمرة الأولى.

 

وهكذا، وبعد مرور 47 عامًا على أول انقلاب في 27 مايو/أيار 1960، بدأ عهد جديد في علاقة العسكر بالسياسة في تركيا.

 

وفي أيّامنا هذه، وبمناسبة الذكرى الستين لهذا الانقلاب الظالم الغاشم، تُناقَش قضية الانقلابات من جديد؛ لأنّه -بناءً على أوامر من رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان- تمّت تحضيرات خاصة في جزيرة “ياسّي”، إذ قام أردوغان الأربعاء 27 مايو/أيار بافتتاح “جزيرة الديمقراطية والحريّات”.

 

نعم إنّها الجزيرة التي شهدت إعدامَ رئيس الوزراء المرحوم عدنان مندريس ورفاقه، هذه الجزيرة التي تقع في بحر مرمرة وعلى مقربة من إسطنبول وكانت مُغلقةً أمام عامّة الناس، ولكنّها اليوم فُتِحت أمام زيارة الشعب، ورُمِّمَت قاعةُ المحكمة، وشُيِّدَ في الجزيرة مسجدٌ، وفندقٌ، وقاعة مؤتمرات؛ مما يجعلُها مكانا جميلا للغاية للاجتماعات العلمية والسياسية الدولية. وهذا يهدف إلى ترسيخ الحقوق والديمقراطية ومكافحة الانقلاب في وعي المجتمع التركي.

 

وفي الجزيرة أيضا تمّ افتتاح “مُتحَفُ الديمقراطية والحرّيات” ليُخلِّد مندريس ورفاقه، وقد أَولى الرئيس رجب طيب أردوغان اهتماما كبيرا لبناء هذا المتحف، ووُفِّقَ إلى افتتاحه في الذكرى السنوية الستين للانقلاب، تماما كما خَطّط له؛ لأنّ هذا المتحف يضمن أن ينتقل هذا الوعي (المناهِض للانقلابات) إلى الأجيال القادمة، ويضمن ألا يتمّ تزوير التاريخ.

 

وهذا الافتتاح للجزيرة في الذكرى الستين للانقلاب والإعدامات، ذكَّر المجتمعَ التركي بأنّ الانقلابيين كانوا وصمة عارٍ في تاريخ المجتمع في تركيا.

 

في الواقع، وعلى الرغم من أن موقف أردوغان ضد الانقلاب العسكري كان نقطة تحول في عام 2007، لكن لسوء الحظ أنه لم يمحُ هذا الفكرَ تمامًا عند المهووسين بالانقلابات؛ فقبل أربع سنوات فقط، حاول التنظيم العسكري السري المرتبط بفتح الله غولن الانقلابَ.

 

ولكن المجتمع التركي استطاع بوعيه العالي بالأثر المدمّر للانقلابات العسكرية، وبقيادة أردوغان القوية الحازمة، وبتشجيعه لهم في تلك الليلة، استطاع المجتمع التركي أن يصدّ محاولة الانقلابيين وأن يُفشِلَها.

 

وفي تلك الليلة ضربت مقاومة الأمة التركية ضد هذا الانقلاب مثالا استثنائيا للحركة الديمقراطية في تاريخ العالم.

 

إنّ مقاومة الشعب التركي وشجاعته في تلك الليلة كانت أكبرَ من الدفاع عن حقوقه وديمقراطيته فحسْب، بل يمكننا القول: إنّ تلك الليلة كانت نصرًا للديمقراطية وللشّعوب في كلّ العالم.

 

وإنّ إفشال الشعب التركي لهذا الانقلاب -الذي أراد أن ينفث سُمومه- جعلَ تركيا أقوى، وتطهَّرَ الجيشُ التركي من العصابة الخائنة الغادرة التي تسللت إليه، وأصبح الجيش التركي أقوى بكثير مما كان عليه قبلُ.

 

وعلى الرغم من استبعاد ما يقرب من ثلث أفراد الجيش إثر المحاولة الانقلابية العسكرية الفاشلة، فقد نجح الجيش التركي بتنفيذ عملية “درع الفرات” في شمال سوريا -بعد محاولته الانقلاب- وعملية “غصن الزيتون” و”نبع السلام” بنجاح منقطع النظير.

 

وفي وقت قصير، نجح الجيش التركي بتسجيل انتصارات ساحقة على المنظمة الإرهابية (PKK) “حزب العمال الكردستاني” التي عانى الشعب التركي من إرهابها خمسين عاما، وبقيت هذه المنظمة على أجندة الحكومات التركية المتعاقبة خمسين عاما؛ ومع التخلّص من الانقلابيين، ازدادت قوة الجيش التركي، وأصبحت البلاد أكثر نجاحا بكثير من جميع النواحي.

 

ومع ذلك كلّه؛ فإنّ طموحات المهووسين بالانقلابات في تركيا لم تمُت تماما؛ ففي الآونة الأخيرة كانت أحزاب المعارضة تُذكِّرُ حزبَ العدالة والتنمية بالانقلابات؛ ولكن هذه الخطابات والمناقشات لا تشير إلى أنه يوجد حاليا أي إمكانية لانقلاب عسكري في تركيا؛ بل على العكس من ذلك، فإن تركيا الآن هي في أبعد نقطة من احتمال وقوع انقلاب في تاريخها.

 

وهذه الخطابات من المعارضة لا تعني أنّ هناك إمكانية أو احتمالا أو أن أحدًا ما يضع القيام بانقلاب عسكري على جدول أعماله حاليا؛ فقد أَقفلت تركيا بابَ الانقلابات نهائيا، وأصبح الانقلاب العسكري تاريخا قديما يجلب اللعنة على مُدبّريه ويدعوهم إلى الشعور بالعار، والمعارضة تعرف تماما أنها هي وداعميها لا يقدرون عليه أبدا، لأن تركيا اليوم قويّة وليست تركيا القديمة.

 

ولكن مثل هذه التصريحات إنّما هي قلّة حياء منهم وعدم خجل من تاريخهم البغيض، تماما كما النازيون الجدد في ألمانيا، لا يستحيون من تاريخهم الشائن المخجِل، وهذا بلا شك يزعج الأشخاص الديمقراطيين، ويُزعج شرائح حزب العدالة والتنمية بطبيعة الحال.

 

ومع ذلك فإنّ هؤلاء لديهم ديناميكيات انقلابية متجددة؛ فإنّه قبل محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة في 15 يوليو/تموز 2016، جرت عدة محاولات أُخرى، وهذه المحاولات لم تكن على أيدي العسكر، بل كانت من قِبل وسائل الإعلام، وباستغلال حقّ التّظاهر والاحتجاج (حوادث ميدان غيزي في إسطنبول 2013)، ومن خلال تلفيق التهم والادّعاء أمام القضاء؛ كما حصل في 17-25 ديسمبر/كانون الأول 2013.

 

لذا فهذه الانقلابات ليست كالانقلابات العسكرية التقليدية، إنهم يبحثون عن ألاعيب ليأتوك من طرق لم تتوقعها قطّ، إنّهم مثل الشيطان لا تعرف من أين يأتيك.

 

ومع ذلك، هناك الآن ما يكفي من الوعي والحساسية واليقظة في تركيا.

 

المصدر: الجزيرة

زر الذهاب إلى الأعلى