مواضيع ثقافية وسياسية

الفخ الروسي لأنقرة في شمال سوريا

دعا وزير الدفاع التركي، خلوصي أكار القوات التركية في  شمال سوريا إلى التأهب والجاهزية التامة ” لم يكتمل أي شيء هنا ، كل شيء يمكن أن يقع في أية لحظة “. سمعنا كلاما مشابها روسيا وسوريا وأميركيا فالواضح أن الجميع هناك يستعد لكل احتمال ميداني وعسكري قبل أية مفاجآت سياسية.

 

موسكو تبحث عن إضعاف تركيا ميدانيا في الشمال لإفساح المجال أمام تقدم وتمركز قوات النظام ثم تضغط على دمشق لإنجاز التطبيع مع مجموعات “قسد” وإلزامها بالخيار الوحيد المتبقي، ترك كل شيء والانسحاب، وبعد ذلك الوصول إلى هدفها الأكبر إسقاط مشروع المنطقة الآمنة التركي طالما أن مبررات وجوده ستنتهي.

 

الاحتمال الآخر الذي تراهن عليه روسيا إذا ما تعثر هذا السيناريو هو إشعال الجبهات بين تركيا و” قسد ” ثم بين القوات التركية وقوات النظام لتدخل هي مجددا على الخط ملزمة الجميع بقبول ما تراه مناسبا لإنهاء الاقتتال.

 

طبعا هناك في الجيب ورقة إدلب التي تحتفظ بها موسكو لساعة الحشرة وتحريكها عند الضرورة عسكريا لتضييق الخناق على أنقرة أكثر فأكثر والوصول إلى ما تريده عبر صفقة جديدة مع تركيا تبعدها عن منبج وتل رفعت وعين العرب.

 

وكأن الكرملين يرسم كل هذه الخطط باسمه ونيابة عن واشنطن في إطار لعبة تفاهمات ثنائية مشتركة لا نعرف عنها الكثير بعد.

 

ما معنى قرار المغادرة العسكرية الأميركية للعديد من المناطق السورية ثم التراجع عن القرار والعودة مجددا بين ليلة وضحاها إلى كوباني ودير الزور؟ هل لذلك علاقة بالخطط الروسية التي تتقدم على الأرض كما هو مرسوم لها؟ من سينسق مع من؟ وما هو مصير التفاهمات التركية الأميركية والتركية الروسية؟ ولماذا استبعاد احتمال وجود فجوة لا بد من العثور عليها وهي قد تكون التفاهمات الروسية الأميركية المباشرة؟

 

إصرار موسكو على تنشيط وتفعيل اتفاقية أضنة محاولة روسية جادة لإضعاف خيارات أنقرة في الشمال السوري أولا وتفكيك خطة المنطقة الآمنة التركية ثانيا. الدخول الروسي على خط إقناع تركيا بتسليم 18 جنديا أسروا من قبل المقاتلين المعارضين إلى النظام يعكس حجم التنسيق بين أنقرة وموسكو لكنه يظهر أيضا الثقل الروسي في التأثير على الجميع للتحكم بمجريات الأمور ميدانيا وسياسيا.

 

يقول الرئيس التركي رجب طيب أردوغان سنقوم بتوسيع حدود رقعة المنطقة الآمنة إذا كان هناك ضرورة في ذلك، وإن أية اعتداءات علينا من خارج المنطقة الآمنة ستقابل بالرد. مطلب 440 كم نفسه لم يحسم بعد وقوات النظام تقترب أكثر فأكثر من مناطق وجود القوات التركية، المنطقة الآمنة  نفسها لم ترسم حدودها بعد ولم يتم إقناع الكثير من اللاعبين الإقليميين بها وفي مقدمتهم الشريك الروسي فكيف ستحصل أنقرة على ما تريده؟

 

قبل أيام كان وزير الخارجية التركي مولود شاووش أوغلو يشير إلى بدء العمل مع روسيا لتحويل المناطق التي تقع خارج العملية العسكرية التركية إلى “منطقة آمنة “. الرئيس أردوغان أعلن أن تركيا مستعدة لتنفيذ خطّتين بديلتين في حال عدم تنفيذ الاتفاق المبرم مع روسيا حول المنطقة الآمنة في الشمال السوري. قبل أيام أيضا انطلقت أعمال الدوريات العسكرية التركية الروسية المشتركة بعمق 7 كم في إطار خطط التفاهمات بين الجانبين. الاتصالات بين أنقرة وموسكو سياسيا وعسكريا في ذروتها لكن أسباب التباعد والخلاف كثيرة متنوعة ومتشعبة ولن يكون سهلا تجاوزها على طول الحدود التركية السورية ومناطق التوتر والاحتقان المتزايد.

 

واشنطن تستعد لاستقبال “مظلوم كوباني” الذي تطالب أنقرة بتسليمه لها. البعض يريد تحويله إلى ياسر عرفات جديد يخاطب العالم من على المنصة الأممية. الداخل التركي يدعو أردوغان للتراجع عن زيارته المقررة بعد أقل من أسبوعين إلى العاصمة الأميركية بدعوة من نظيره ترمب. لمصلحة من ترتيب معادلة من هذا النوع تكون أنقرة الخاسر الأول فيها شئنا أم أبينا؟ روسيا مثلا  التي لم تسأل الإدارة الأميركية عن أسباب قرار الهيمنة على آبار النفط السورية في شرق سوريا والعودة العسكرية الأميركية مجددا إلى سوريا؟ للتذكير فقط تحجيم النفوذ الإيراني في سوريا وتضييق الخناق على الحراك التركي يرضي واشنطن وموسكو قبل غيرهما. أميركا تفاوض نيابة عن “قسد” وروسيا تتحدث بدلا من النظام في دمشق ألا يخدم كل ذلك مشروع التقارب الأميركي الروسي؟

 

الواضح تماما هو أن محادثات جنيف حول الدستور السوري الجديد وارتدادات عملية تصفية زعيم مجموعات ” داعش ” أبو بكر البغدادي لا يمكن فصلها عن تطورات المشهد الأمني في الشمال السوري. التصعيد السياسي الأميركي الأخير ضد تركيا تحت سقف البرلمان والقرارات الصدارة عنه مؤشر آخر يذهب وراء تأييد نظرية التفاهمات الأميركية الروسية التي إن لم تكتمل بعد فهي ستنجز قريبا.

 

عند انطلاق ” نبع السلام ” كنا نردد أن أنقرة نجحت في الحصول على ما تريده أقنعت واشنطن بفتح الطريق أمامها في شمال سوريا، ثم تمكنت من إقناع موسكو بإطلاق يدها في ملء الفراغ الميداني بعد انسحاب القوات الأميركية. اللاعبان الأميركي والروسي وكما يبدو اليوم لم يقدما الكثير لأنقرة بقدر ما حصلا على تفاهمات ثنائية غير معلنة بينهما حول رسم خريطة التحرك في شمال سوريا.

 

واشنطن تعود أدراجها إلى مناطق غادرتها بطلب من تركيا وموسكو تقول إنه لا حاجة لمواصلة تركيا عمليتها العسكرية طالما أن ” قسد ” غادرت المكان وبات النظام جاهزا لملء الفراغ الأمني الحدودي الذي طالما أقلق الأتراك. هدف موسكو التالي هو المساومة عربيا وأوروبيا على إنجازاتها في سوريا بعدما ضبطت حركة الإيقاع محليا وإقليميا ووصلت إلى ما تريده في عرقلة الكثير من الخطط والأهداف التركية.

 

 

د. سمير صالحة – جريدة ترك برس

 

زر الذهاب إلى الأعلى