إمانويل تود.. انهيار الغرب وشيك
تحول الناقد والكاتب الفرنسي الشهير إمانويل تود، خلال الأسبوعين الفائتين، إلى نجم تلفزيوني في فرنسا، وذلك بعد الإعلان عن نشر كتابه الجديد “هزيمة الغرب” مطلع هذا العام، حيث استضافته وسائل إعلام مرئية، وأجرت معه صحف عديدة مقابلات من أجل الحديث عن مولوده الجديد المثير للجدل.
الكتاب أثار بلبلة في الأوساط الغربية، خصوصا لناحية توقعه مرة جديدة، جملة من المواضيع التي تعتبر مزعزعة لليقين الغربي، وذلك على غرار التوقعات السابقة التي أطلقها بكتبه فيما مضى، وهزت الرأي العام العالمي بعد أن تحققت، ومنها انهيار الاتحاد السوفييتي. ولهذا يلقى كتابه الجديد هذا الكم من الاهتمام اليوم.
في كتابه الجديد، يقول تود إن “الغرب اليوم ليس مستقرا، بل إنه مريض”، خصوصا بعد أن وقع في الفخ الذي نصبته الولايات المتحدة لروسيا في أوكرانيا منذ العام 2005. يومها هيأ الغرب الظروف لظهور قومية أوكرانية يمينية متطرّفة منذ العام 2014، فتسببت بتوريط روسيا في الحرب ضد أوكرانيا وحلف الشمال الأطلسي (الناتو) في العام 2022.
في نظره، فإن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يوم أعلن عن دخول قوات بلاده الأراضي الأوكرانية، لم يكن من أجل حق تقرير مصير سكان دونباس فحسب، وإنما من أجل تحدي حلف “الناتو” الذي آثر على توسيع بنيته في أوكرانيا، فأصر بوتين على أن حربه هي “دفاع عن النفس”، لكن الغرب رفض هذه الفكرة وقام بالتسويق لأفكار أخرى.
مع الوقت تحولت تلك الحرب إلى عملية استنزاف للأموال والأسلحة الغربية، خصوصا يوم قللت واشنطن من قدرة روسيا على المقاومة، وبالغت في المقابل بتقدير قدراتها وقدرات القارة الأوروبية على السواء، فورطت أوكرانيا في تلك الحرب. وبدلا من تفكيك روسيا، تحولت الحرب إلى عملية استنزاف يدفع ثمنها اليوم الأوروبيون أنفسهم.
ولهذا، يتوقع تود هزيمة “الناتو” في أوكرانيا، ويعتبر أن الحرب من شأنها أن تدفع نحو تقارب روسي – ألماني جديد، نتيجة فشل واشنطن في إبعاد أهم قوتين رئيسيتين في أوروبا، خصوصا أن اقتصادهما (روسيا وألمانيا) يعتبر اليوم وفي المستقبل، مكمل الأول للثاني.
أما أفضل ما يمكن أن يحدث اليوم لأوروبا في نظره، فهو “اختفاء الولايات المتحدة”، لأن أوروبا بذلك ستعيش بسلام بعد انهيار “الليبرالية الأوليغارشية” التي يصفها بأنها “طبقة السياسيين والجيوسياسيين عديمة الأخلاق الحاكمة في أميركا”.
تنطلق منهجية الكتاب من تحليل الأرقام الاقتصادية والديموغرافية، وكذلك من قراءة المؤشرات الاجتماعية، التي قادت الكاتب للقول إن الأوروبيين في طريقهم إلى “التصفير”، ضاربا مثالا عن المجتمع الأوروبي الذي يتوجه نحو “صفر زواج” نتيجة تبني قوانين “زواج المثليين”، وهو ما يمثل بالنسبة له: “قطيعة” مع ثقافة التدين التي ستؤدي مع الوقت إلى “محق الدين”، باعتباره العنصر الرئيسي لـ “انهيار الغرب الوشيك”.
وكذلك كما يرى الكاتب الفرنسي، أن الحرب الأوكرانية تسببت بعدد من المفاجآت للعالم بأسره، وهي كالتالي:
اندلاع الحرب في “واحة الأمن والسلام”: يقول إن اندلاع الحرب في القارة الأوروبية هو حدث غير مسبوق منذ الحرب العالمية الثانية بالنسبة للأوروبيين، الذين اعتقدوا أن أراضيهم مستقرة بعد سلام دائم، كرسه الاتحاد الأوروبي بمختلف مؤسساته العسكرية والمالية والدبلوماسية.
الاحتواء الأميركي يتحول من الصين إلى روسيا: يلاحظ تود أن واشنطن أشعلت الحرب ضد روسيا، وليس الصين، على الرغم من أنها، بحزبيها الجمهوري والديمقراطي، كانت تعتبر لأكثر من عقد أن الصين هي عدوهما الرئيسي، لكنّها فجأة تحولت إلى مناهضة روسيا عبر أوكرانيا.
مرونة الاقتصاد الروسي بخلاف التوقعات: فقد سفهت التحاليل الأميركية والأوروبية من قدرة روسيا على التأقلم مع العقوبات، ووعدت بتدمير اقتصادها الروسي، فقال وزراء ومسؤولين في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة إن العقوبات المفروضة على المصارف الروسية وحجبها عن نظام “سويفت”، ستجعلها تركع. لكن محافظة المصرف المركزي الروسي وفريقها بالتعاون مع الشبكات الصينية دحضت ذلك، بحسب تود، فاكتشف العالم أن روسيا تمتع بمرونة اقتصادية واجتماعية كبيرة.
انهيار الإرادة الأوروبية وتراجع استقلاليتها: كانت سياسة أوروبا تختصر بثنائي فرنسا وألمانيا، بشكل متوازن منذ أزمة العام 2008، لكن مع الوقت لم تعد ألمانيا مطيعة لما تقوله فرنسا. كما خلال الحرب قد تخلت ألمانيا ومعها الاتحاد الأوروبي عن أي رغبة في الدفاع عن مصالحها. بشكل مستغرب، قطعت ألمانيا عن نفسها إمدادات الطاقة الروسية وانسحبت شركاتها من اقتصاد روسيا: شريكها التجاري بمليارات الدولارات، كما فرضت عقوبات على نفسها، وتغاضت عن عملية تخريب خطوط أنابيب الغاز “نورد ستريم” (1 و2) لإمداد صناعاتها بالطاقة، فكان ذلك موجها ضدها بقدر ما هو موجه ضد روسيا. أما فرنسيا، فتبخرت مع الوقت سطوة باريس بقيادة الرئيس إيمانويل ماكرون، وأصبحت بولندا الوكيل الرئيسي لواشنطن في أوروبا، فاستُبدل محور “باريس- برلين” بمحور “لندن- وارسو”، ثم أمست أوروبا تابعا مفكك السلطة، ومنزوع القرار لصالح واشنطن.
الحماس البريطاني لمواصلة الحرب: ظهرت المملكة المتحدة كقوة حربية مضادة لروسيا، باعتبارها واحدة من أكثر الدولة الأوروبية حماسا لمواصلة الصراع، مرسلة صواريخ بعيدة المدى ودبابات ثقيلة إلى أوكرانيا، فأججت الحرب وتسببت بتصاعدها بطريقة كبيرة.
الدول الإسكندنافية تطمح إلى عضوية “الناتو”: بعد أن كانت الدول المجاورة لروسيا لفترة طويلة ذات مزاج سلمي وأكثر ميلا إلى الحياد، تحوّلت النرويج والدنمارك لمناطق عسكرية حليفة للولايات المتحدة، بينما طلبت فنلندا والسويد انضمامهما إلى حلف شمال الأطلسي، وأظهرتا اهتماما مستجدا بالتسلح الذي كان مكتوما قبل الحرب في أوكرانيا.
نقص إنتاج السلاح في أميركا: يعتبر تود أن القوة العسكرية الأولى المهيمنة في العالم، كشفت بشكل صريح في حزيران (يونيو) 2023، ضعف صناعاتها العسكرية، فأمست غير قادرة على ضمان تزويد القذائف والصواريخ إلى أوكرانيا، بينما كانت روسيا قادرة على إنتاج كمية أسلحة أكثر من العالم الغربي برمته. وبحسب تود فإن ذلك يمثل أزمة مزدوجة: أولا بالنسبة للجيش الأوكراني الذي يخسر الحرب، وثانيا لناحية كذب وافتراء التحليلات الغربية ذات الطابع الأيديولوجية، معتبرا أن مفهوم الناتج الداخلي الإجمالي كمعيار لقياس القوة العسكرية بات اليوم من الماضي.
الغرب معزول إيديولوجيا: عزل الغرب نفسه عن الأغلبية الديموغرافية للعالم مثل أفريقيا وأميركا اللاتينية والصين والهند، (ثلثي العالم)، وذلك نتيجة إملاء القيم التي فرضها وافترض أن العالم مجبر على الالتزام بها، وبالتوازي أن الكوكب برمته سيشارك الغرب سخطه على روسيا وسلوكها. لكن ذلك لم يحصل، إذ شهدت الدبلوماسية الأفريقية والآسيوية والأميركية الجنوبية على دعم غير مسبوق لروسيا، والتزاما تركياً وعربيا بالحياد. ناهيك عن تحول الجنوب بشكل تدريجي إلى العملات الوطنية واليوان الصيني من أجل التخلص من هيمنة الدولار في العمليات التجارية.
هزيمة الغرب: يرى تود أن تلك النبوءة على وشك أن تتحقق، بسبب الولايات المتحدة التي تعرض توازن الكوكب للخطر نتيجة اصطدامها بمقاومة روسيا كدولة قومية كلاسيكية ومحافظة، كانت فيما مضى دولة شيوعية سوفيتية، ثم نهضت كقوة عسكرية ضاربة. ولهذا يرى تود أن روسيا ليست المشكلة بذاتها اليوم، فهي أرض واسعة ذات عدد سكان متناقص، ولا رغبة لها في السيطرة على العالم، بل أنها تؤمن بالتوزان وتطالب بنظام دولي متعدد الأقطاب.